صفحة جزء
وقوله : يفعل ما يشاء ، وهو غير ظالم أبدا - الذي دل عليه القرآن من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد ، يقتضي قولا وسطا بين قولي القدرية والجبرية ، فليس ما كان من بني آدم ظلما وقبيحا يكون منه ظلما وقبيحا ، كما تقوله القدرية والمعتزلة ونحوهم ! فإن ذلك تمثيل لله بخلقه ! وقياس له عليهم ! هو الرب الغني القادر ، وهم العباد الفقراء المقهورون . وليس الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة ، كما يقوله من يقوله من المتكلمين وغيرهم ، يقولون : إنه يمتنع أن يكون [ في ] الممكن المقدور ظلم ! بل كل ما كان ممكنا فهو منه - لو فعله - عدل ، إذ الظلم لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي ، والله ليس كذلك . فإن قوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما [ طه : 112 ] وقوله تعالى : ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد [ ق : 29 ] وقوله تعالى : وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين [ الزخرف : 76 ] وقوله تعالى : ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [ الكهف : 49 ] وقوله تعالى : اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب [ غافر : 17 ] . يدل على نقيض هذا القول .

ومنه قوله الذي رواه عنه رسوله : يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا . فهذا دل على شيئين : [ ص: 660 ] أحدهما : أنه حرم على نفسه الظلم ، والممتنع لا يوصف بذلك .

الثاني : أنه أخبر أنه حرمه على نفسه ، كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة ، وهذا يبطل احتجاجهم بأن الظلم لا يكون إلا من مأمور منهي ، والله ليس كذلك . فيقال لهم : هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة ، وحرم على نفسه الظلم ، وإنما كتب على نفسه وحرم على نفسه ما هو قادر عليه ، لا ما هو ممتنع عليه .

وأيضا : فإن قوله : " فلا يخاف ظلما ولا هضما " [ طه : 112 ] - قد فسره السلف ، بأن الظلم : أن توضع عليه سيئات غيره ، والهضم : أن ينقص من حسناته ، كما قال تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ الإسراء : 15 ] .

وأيضا فإن الإنسان لا يخاف الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة حتى يأمن من ذلك ، وإنما يأمن مما يمكن ، فلما آمنه من الظلم بقوله : فلا يخاف [ طه : 112 ] - علم أنه ممكن مقدور عليه . وكذا قوله : لا تختصموا لدي [ ق : 28 ] إلى قوله : وما أنا بظلام للعبيد [ ق : 29 ] - لم يعن بها نفي ما لا يقدر عليه ولا يمكن منه ، وإنما نفى ما هو مقدور عليه ممكن ، وهو أن يجزوا بغير أعمالهم . فعلى قول هؤلاء ليس الله منزها عن شيء من الأفعال أصلا ، ولا مقدسا عن أن يفعله ، بل كل ممكن فإنه لا ينزه عن فعله ، بل فعله حسن ، ولا حقيقة للفعل السوء ، بل ذلك ممتنع ، والممتنع لا حقيقة له ! !

والقرآن يدل على نقيض هذا القول ، في مواضع ، نزه الله نفسه فيها عن فعل ما لا يصلح له ولا ينبغي له ، فعلم أنه منزه مقدس عن فعل السوء والفعل المعيب المذموم ، كما أنه منزه مقدس عن وصف السوء [ ص: 661 ] والوصف المعيب المذموم . وذلك كقوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون [ المؤمنون : 115 ] . فإنه نزه نفسه عن خلق الخلق عبثا ، وأنكر على من حسب ذلك ، وهذا فعل . وقوله تعالى : أفنجعل المسلمين كالمجرمين [ القلم : 35 ] . وقوله تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ ص : 28 ] - إنكار منه على من جوز أن يسوي الله بين هذا وهذا . وكذا قوله : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [ الجاثية : 21 ] - إنكار على من حسب أنه يفعل هذا ، وإخبار أن هذا حكم سيء قبيح ، وهو مما ينزه الرب عنه .

وروى أبو داود ، والحاكم في المستدرك ، من حديث ابن عباس ، وعبادة بن الصامت ، وزيد بن ثابت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه ، لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم .

[ ص: 662 ] وهذا الحديث مما يحتج به الجبرية ، وأما القدرية فلا يتأتى على أصولهم الفاسدة ! ولهذا قابلوه إما بالتكذيب أو بالتأويل ! !

وأسعد الناس به أهل السنة ، الذين قابلوه بالتصديق ، وعلموا من عظمة الله تعالى وجلاله ، قدر نعم الله على خلقه ، وعدم قيام الخلق بحقوق نعمه عليهم ، إما عجزا ، وإما جهلا ، وإما تفريطا وإضاعة ، وإما تقصيرا في المقدور من الشكر ، ولو من بعض الوجوه . فإن حقه على أهل السماوات والأرض أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وتكون قوة الحب والإنابة ، والتوكل والخشية والمراقبة والخوف والرجاء - : جميعها متوجهة إليه ، ومتعلقة به ، بحيث يكون القلب عاكفا على محبته وتأليهه ، بل على إفراده بذلك ، واللسان محبوسا على ذكره ، والجوارح وقفا على طاعته .

ولا ريب أن هذا مقدور في الجملة ، ولكن النفوس تشح به ، وهي في الشح على مراتب لا يحصيها إلا الله تعالى . وأكثر المطيعين تشح به نفسه من وجه ، وإن أتى به من وجه آخر . فأين الذي لا تقع منه إرادة تزاحم مراد الله وما يحبه منه ؟ ومن الذي لم يصدر منه خلاف ما خلق له ، ولو في وقت من الأوقات ؟ فلو وضع الرب سبحانه عدله على أهل سماواته وأرضه ، لعذبهم بعدله ، ولم يكن ظالما لهم .

وغاية ما يقدر ، توبة العبد من ذلك واعترافه ، وقبول التوبة محض فضله وإحسانه ، وإلا فلو عذب عبده على جنايته لم يكن ظالما ولو قدر أنه تاب منها . لكن أوجب على نفسه - بمقتضى فضله ورحمته - أنه لا يعذب من تاب ، وقد كتب على نفسه الرحمة ، فلا يسع الخلائق [ ص: 663 ] إلا رحمته وعفوه ، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار ، أو يدخل الجنة ، كما قال أطوع الناس لربه ، وأفضلهم عملا ، وأشدهم تعظيما لربه وإجلالا : لن ينجي أحدا منكم عمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل

وسأله الصديق دعاء يدعو به في صلاته ، فقال : قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم .

فإذا كان هذا حال الصديق ، الذي هو أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين - فما الظن بسواه ؟ بل إنما صار صديقا بتوفيته هذا المقام حقه ، الذي يتضمن معرفة ربه ، وحقه وعظمته ، وما ينبغي له ، وما يستحقه على عبده ، ومعرفة تقصيره . فسحقا وبعدا لمن زعم أن المخلوق يستغني عن مغفرة ربه ولا يكون به حاجة إليها ! وليس وراء هذا الجهل بالله وحقه غاية ! ! فإن لم يتسع فهمك لهذا ، فانزل إلى وطأة النعم ، وما عليها من الحقوق ، ووازن من شكرها وكفرها ، فحينئذ تعلم أنه سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه ، لعذبهم وهو غير ظالم لهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية