صفحة جزء
والمعتزلة : هم عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء الغزال وأصحابهما ، سموا بذلك لما اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن [ ص: 792 ] البصري رحمه الله ، في أوائل المائة الثانية ، وكانوا يجلسون معتزلين ، فيقول قتادة وغيره : أولئك المعتزلة .

وقيل : إن واصل بن عطاء هو الذي وضع أصول مذهب المعتزلة ، وتابعه عمرو بن عبيد تلميذ الحسن البصري ، فلما كان زمن هارون الرشيد صنف لهم أبو الهذيل كتابين ، وبين مذهبهم ، وبنى مذهبهم على الأصول الخمسة ، التي سموها : العدل ، والتوحيد ، وإنفاذ الوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ! ولبسوا فيها الحق بالباطل ، إذ شأن البدع هذا ، اشتمالها على حق وباطل .

وهم مشبهة الأفعال ، لأنهم قاسوا أفعال الله تعالى على أفعال عباده ، وجعلوا ما يحسن من العباد يحسن منه ، وما يقبح من العباد يقبح منه ! وقالوا : يجب عليه أن يفعل كذا ، ولا يجوز له أن يفعل كذا ، بمقتضى ذلك القياس الفاسد ! ! فإن السيد من بني آدم لو رأى عبيده تزني بإمائه ولا يمنعهم من ذلك لعد إما مستحسنا للقبيح ، وإما عاجزا ، فكيف يصح قياس أفعاله سبحانه وتعالى على أفعال عباده ؟ ! والكلام على هذا المعنى مبسوط في موضعه .

فأما العدل ، فستروا تحته نفي القدر ، وقالوا : إن الله لا يخلق الشر ولا يقضي به ، إذ لو خلقه ثم يعذبهم عليه يكون ذلك جورا ! ! والله تعالى عادل لا يجور . ويلزمهم على هذا الأصل الفاسد أن الله تعالى يكون في ملكه ما لا يريده ، فيريد الشيء ولا يكون ، ولازمه وصفه بالعجز ! تعالى الله عن ذلك .

[ ص: 793 ] وأما التوحيد فستروا تحته القول بخلق القرآن ، إذ لو كان غير مخلوق لزم تعدد القدماء ! ! ويلزمهم على هذا القول الفاسد أن علمه وقدرته وسائر صفاته مخلوقة ، أو التناقض ! .

وأما الوعيد ، فقالوا : إذا أوعد بعض عبيده وعيدا فلا يجوز أن لا يعذبهم ويخلف وعيده ، لأنه لا يخلف الميعاد ، فلا يعفو عمن يشاء ، ولا يغفر لمن يريد ، عندهم ! !

وأما المنزلة بين المنزلتين ، فعندهم أن من ارتكب كبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر ! !

وأما الأمر بالمعروف ، وهو أنهم قالوا : علينا أن نأمر غيرنا بما أمرنا به ، وأن نلزمه بما يلزمنا ، وذلك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وضمنوه أنه يجوز الخروج على الأئمة بالقتال إذا جاروا ! ! وقد تقدم جواب هذه الشبه الخمس في مواضعها .

وعندهم أن التوحيد والعدل من الأصول العقلية التي لا يعلم صحة السمع إلا بعدها ، وإذا استدلوا على ذلك بأدلة سمعية ، إنما يذكرونها للاعتضاد بها ، لا للاعتماد عليها ، فهم يقولون : لا تثبت هذه بالسمع ، بل العلم بها متقدم على العلم بصحة النقل ! فمنهم من لا يذكرها في الأصول ، إذ لا فائدة فيها عندهم ، ومنهم من يذكرها ليبين موافقة السمع للعقل ، ولإيناس الناس بها ، لا للاعتماد عليها ! والقرآن والحديث فيه عندهم بمنزلة الشهود الزائدين على النصاب ! والمدد اللاحق بعسكر مستغن عنهم ! وبمنزلة من يتبع هواه واتفق أن الشرع [ ص: 794 ] ما يهواه ! ! كما قال عمر بن عبد العزيز : لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه ، ويخالفه إذا خالف هواه ، فإذا أنت لا تثاب على ما وافقته من الحق ، وتعاقب على ما تركته منه ، لأنك إنما اتبعت هواك في الموضعين . وكما أن الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، والعمل يتبع قصد صاحبه وإرادته ، فالاعتقاد القوي يتبع أيضا علم ذلك وتصديقه ، فإذا كان ذلك تابعا للإيمان كان من الإيمان ، كما أن العمل الصالح إذا كان عن نية صالحة كان صالحا ، وإلا فلا ، فقول أهل الإيمان التابع لغير الإيمان ، كعمل أهل الصلاح التابع لغير قصد أهل الصلاح . وفي المعتزلة زنادقة كثيرة ، وفيهم من ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية