لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
[ ص: 320 ] ثم أشار في النظم إلى مسألة عظيمة مبنية على أن أفعال الباري لا تعلل ، فقال :

( ( وجاز للمولى يعذب الورى من غيرما ذنب ولا جرم جرى ) )      ( ( فكل ما منه - تعالى - يجمل
لأنه عن فعله لا يسأل ) ) [ ص: 321 ] ( (     فإن يثب فإنه من فضله
وإن يعذب فبمحض عدله ) )      ( ( فلم يجب عليه فعل الأصلح
ولا الصلاح ويح من لم يفلح ) )      ( ( فكل من شاء هداه يهتدي
وإن يرد ضلال عبد يعتد ) )

[ ص: 322 ] ( ( وجاز للمولى ) ) جل وعلا . قال في النهاية : المولى اسم يقع على جماعة كثيرة ، فهو الرب ، والمالك ، والسيد ، والمنعم ، والمعتق ، والناصر ، والمحب ، والتابع [ ص: 323 ] والجار ، وابن العم ، والحليف ، والعقيد ، والصهر ، والعبد ، والمعتق ، والمنعم عليه ، وأكثرها قد جاءت في الحديث ، فيضاف كل واحد إلى ما يقتضيه الحديث الوارد فيه ، والمراد به هنا رب العالمين ، وإنما اختير هنا المولى دون غيره من [ ص: 324 ] سائر الأسماء لمناسبة المقام ( ( يعذب الورى ) ) كفتى ، الخلق ، والمراد به هنا ذوو العقول ( ( أو ) ) الحيوان من كل جسم نام متحرك بالإرادة ، أو على عمومه ، وإرادة الأول أولى بدليل قوله : ( ( من غيرما ) ) زائدة لمزيد تأكيد النفي ، [ ص: 325 ] أي من غير ( ( ذنب ) ) أي إثم ( ( ولا جرم ) ) وهو بمعنى ما قبله ، قال في النهاية : الجرم الذنب ، وقد جرم واجترم وتجرم انتهى . وفي القاموس : الجرم بالضم الذنب كالجريمة ، والجمع جرام وجروم ، وإنما حسن عطفه عليه [ ص: 326 ] في هذا المحل لقصد البيان ، والإيضاح ، والتعريف لشبهه بالخطابة ( ( جرى ) ) من العبد ولا صدر عنه ، ولا تمادى عليه فيجوز عليه - تعالى - عقلا أن يثيب العاصي ، وأن يعاقب الطائع لولا ما أخبر به من إثابة المطيع ، فلا يجب عليه واحد من الأمرين ( ( فكل ما ) ) أي شيء ( ( منه - تعالى - ) ) من إثابة وعقوبة وخلق خير وشر ( ( يجمل ) ) أي يحسن . قال في القاموس : الجمال الحسن في الخلق ، والخلق يقال جمل ككرم ، فهو جميل كأمير وغراب [ ص: 327 ] ورمان . وفي النهاية : الجمال يقع على الصور ، والمعاني ، ومنه أن الله - تعالى - جميل يحب الجمال ، أي حسن الأفعال كامل الأوصاف . فكل ما يصدر عن الباري - جل شأنه - من الأمر ، والخلق بالنسبة إليه - حسن جميل ، حتى إثابة العاصي وعقوبة المطيع ( ( لأنه ) ) - تعالى - ( ( عن فعله ) ) الذي يصدر عنه ( ( لا يسأل ) ) كما قال - تعالى - : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ( ( فإن يثب ) ) عباده المطيعين وخلقه المتقين ، والثواب الجزاء ، ومنه حديث ابن التيهان ( أثيبوا أخاكم ) أي جازوه على صنيعه ، يقال أثابه يثيبه إثابة ، والاسم الثواب ، ويكون في الخير والشر إلا أنه في الخير أخص وأكثر استعمالا ، وهو المراد هنا ( ( فإنه ) ) أي إثابته بالخير والجزاء الحسن ( ( من فضله ) ) - تعالى - الزائد وكرمه الجزيل ; لأن أتقى الناس وأعبدهم ، لا تعادل عبادته وتقواه نعمة إيجاده من العدم إلى الوجود فضلا عن سائر نعمه - تعالى - على عبده من البصر والسمع وغيرهما ، والفضل العطاء عن اختيار ، لا عن إيجاب كما تزعمه الحكماء ، ولا عن وجوب كما تقول المعتزلة ، ( ( وإن يعذب ) ) عباده ولو المطيعين منهم ( ( فبمحض ) ) أي خالص ( ( عدله ) ) - تعالى ، والمحض بالحاء المهملة ، والضاد المعجمة ، في اللغة : اللبن الخالص غير مشوب بشيء ، ومنه الحديث " بارك لهم في محضها ومخضها " أي الخالص ، والممخوض - يعني أنه لو عذبهم لعذبهم بعدله الخالص من شائبة الظلم ; لأنه - تعالى - تصرف في ملكه . والعدل : وضع الشيء في محله من غير اعتراض على الفاعل ، عكس الظلم الذي هو وضع الشيء في غير محله مع الاعتراض على الفاعل ، فطاعات العبد وإن كثرت لا تفي بشكر بعض ما أنعم الله به عليه ، ولا بنعمة الإقدار على الطاعة والتوفيق لها ، فكيف يتصور استحقاقه عوضا عليها ؟ واستدل لهذا بقوله : إن تعذبهم فإنهم عبادك يعني لم تتصرف في غير ملكك ، بل إن عذبت عذبت من تملك ، وبقوله - تعالى - : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم ، وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم " . وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الهم ، والحزن : " اللهم إني عبدك ابن عبدك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك " . وبما روي عن إياس بن معاوية ، قال : ما ناظرت بعقلي كله [ ص: 328 ] أحدا إلا القدرية ، قلت لهم : ما الظلم ؟ قالوا : أن تأخذ ما ليس لك ، وأن تتصرف في ما ليس لك . قلت : فلله كل شيء . وتقدم هذا في شرح قوله : لكنه لا يخلق الخلق سدى فليراجع ، فإن الإمام المحقق ابن القيم كشيخ الإسلام وجمع - لم يرتضوا بهذا ، ونقبوا عليه وبرهنوا وأثبتوا الحكمة والعلة في أفعاله - تعالى - على الوجه الذي شرحناه فيما تقدم .

ومذهب الأشاعرة أن أفعال الباري - تعالى - ليس معللة بالأغراض والمصالح والغرض ، ما لأجله يصدر الفعل عن الفاعل ، ويقولون : إن الله - تعالى - يفعل هذه الحوادث عند الأسباب المقارنة لها ، وإن ذلك عادة محضة ، ويجعلون اللام في أفعاله لام العاقبة ، لا لام التعليل كما هو مقرر محرر . ومذهب الماتريدية امتناع خلو فعله عن المصلحة .

قال السعد : والحق أن تعليل بعض الأفعال لا سيما الأحكام الشرعية بالحكم والمصالح - ظاهر . ومذهب سلف الأئمة على ما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح الأصفهانية ، وأنه القول الوسط الجامع للحق الموافق لصحيح المنقول ، وصريح المعقول . وعليه أشهر الطوائف انتسابا إلى السنة هم مثبتة القدر الذين يقرون بما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من أن الله - تعالى - خالق كل شيء وربه ومليكه ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه خالق كل شيء بقدرته ومشيئته ، ويثبتون لله - تعالى - حكمة يفعل لأجلها قائمة به - تعالى - لا منفصلة عنه ، ويثبتون له رحمة ومحبة ورضا وسخطا ، ويثبتون للحوادث أسبابا تقتضي التخصيص ، ويثبتون ما خلقه الله من الأسباب ، والموانع ، قال : وهذا هو الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول ، وهو الذي يجمع ما في الأقوال المختلفة من الصواب ، ويجتنب ما فيها من الخطأ ، قال : فهذه طريقة سلف الأمة وأئمة الدين ، وهي التي يدل عليها الكتاب والسنة وإجماع السلف ، فإن الله - تعالى - بين في كتابه الحق وأدلته بما ضربه فيه من الأمثال وسنه من البراهين العقلية . انتهى .

قال بعض متكلمي الأشاعرة : إن الأشاعرة يقولون بالحكمة والمصلحة في نفس الأمر ; لأنهم يمنعون العبث في أفعاله - تعالى - كما يمنعون الغرض ; ولذلك كان التعبدي من الأحكام ما لا يطلع على حكمته ، لا ما لا حكمة له ، على أن بعضهم نقل عن الأشاعرة أنهم إنما يمنعون وجوب التعليل لا أنهم يحيلونه ، كما صرح به الإمام ابن عقيل الحنبلي ، واستغربه بعض الأشاعرة ، وبالله التوفيق .

[ ص: 329 ] فإذا علمت ذلك وفهمته ( ( فلم يجب عليه ) ) - سبحانه وتعالى - ( ( فعل الأصلح ) ) أي الأنفع ( ( ولا ) ) يجب عليه أيضا فعل ( ( الصلاح ) ) لعباده ، خلافا للمعتزلة ، فمعتزلة البصرة قالوا بوجوب الأصلح في الدين ، وقالوا : تركه بخل وسفه يجب تنزيه الباري عنه ، ومنهم الجبائي ، وذهب معتزلة بغداد إلى وجوب الأصلح في الدين والدنيا معا ، لكن بمعنى الأوفق في الحكمة والتدبير .

وهذه المسألة مترجمة في كتب القوم بمسألة وجوب الصلاح والأصلح ، وحاصلها أن المعتزلة قالوا بوجوب ما هو الأصلح للعباد عليه - تعالى . وتفصيل ذلك أنهم اتفقوا بعد القول بوجوب الأصلح للعباد عليه - تعالى - وعلى وجوب الإقدار والتمكين وأقصى ما يمكن في معلوم الله - تعالى - مما يؤمن عنده الكافر ويطيع العاصي ، وأنه - تعالى - فعل بكل أحد غاية مقدوره من الأصلح ، قالوا : وليس في مقدوره - تعالى - عما يقول الظالمون علوا كبيرا - لطف لو فعل بالكفار لآمنوا جميعا ، وإلا لكان تركه بخلا وسفها .

ثم اختلفوا فيما يجب مراعاة الأصلح بالنسبة إليه ، كما نبهنا عليه من جهة الدين والدنيا أو الدين فقط على ما مر ، ثم اختلفوا في تفسير الأصلح هل هو الأوفق في الحكمة والتدبير ، أو هو الأنفع كما تقدم آنفا ، ثم اختلفت معتزلة البصرة ، فمنهم من اعتبر الأنفع في علم الله - تعالى . فأوجب ما علم الله نفعيته ، ومن هؤلاء الجبائي ، ومنهم من لم يعتبر ذلك ، فزعم أن من علم الله منه الكفر على تقدير تكليفه إياه يجب تعريضه للثواب بأن يبقيه إلى أن يبلغ عاقلا قادرا على اكتساب الخيرات . والبغدادية وإن لم يلزمهم فيها شيء ، لكن الإلزام عليهم في تخليد الفساق في النار أشد قبحا وشناعة ، وتمسكوا على ذلك بقولهم : نحن نقطع بأن الحكيم إذا أمر بطاعته أحدا ، وقدر على أن يعطي المأمور ما يصل به إلى الطاعة من غير تضرر بذلك ، ثم لم يفعل ؛ كان مذموما عند العقلاء ، معدودا في زمرة البخلاء ، وكذلك من دعا عدوه إلى الموالاة والرجوع إلى الطاعة والمصافاة ؛ لا يجوز أن يعامله من الغلظ واللين إلا بما هو أنجع في حصول المراد وأدعى إلى ترك العناد .

قالوا : وأيضا من اتخذ ضيافة لرجل واستدعاه إلى الحضور ، وعلم أنه لو تلقاه ببشر وطلاقة وجه لدخل وأكل ، وإلا لم يدخل ؛ فالواجب عليه عند العقلاء البشر ، والطلاقة ، والملاطفة ، لا أضدادها . وأجلبوا وأجنبوا من هذا التمويه الذي لا يصدر [ ص: 330 ] إلا من ضال سفيه ، ولهذا قال : ( ( ويح ) ) هذه كلمة ترحم وتوجع ، تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها ، وهي منصوبة على المصدر ، وقد ترفع وتضاف كما هنا ، وضده " ويل " فإنها تقال للحزن ، والهلاك ، والمشقة من العذاب ، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل ، وقيل : " وي " كلمة مفردة ، ولامه مفردة ، وهي كلمة تفجع وتعجب ، فإن قلت : كان المناسب هنا الإتيان بكلمة " ويل " لاقتضاء المقام ؛ قلت : بل الأنسب كلمة " ويح " ; لأنه يتوجع ويترحم لإخوانه من الملة الإسلامية ، كيف استزلهم الشيطان وتلاعب بهم تلاعب الصبيان بالكرة والصولجان ، مع ظهور أدلة القرآن والسنة لمذهب أهل السنة ، فعلى عقولهم الدمار ، وعلى فهومهم البوار ( ( من ) ) أي شخص بالغ عاقل ( ( لم يفلح ) ) أي لم يفز بمتابعة الحق ، وموافقة الشرعة ، ورفض الباطل ، ومجانبة البدعة ، والفلاح من الكلمات الجوامع ، وهو عبارة عن أربعة أشياء : بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعز بلا ذل ، وعلم بلا جهل ، قالوا : فلا كلمة في اللغة أجمع للخيرات منها .

ولمذهب المعتزلة لوازم فاسدة تدل على فساده ، منها أن القربات من النوافل صلاح ، فلو كان الصلاح واجبا وجبت وجوب الفرائض . ومنها أن خلود أهل النار يجب أن يكون صلاحا لهم دون أن يردوا فيعتبوا ربهم ويتوبوا إليه ، ولا ينفعكم اعتذاركم عن هذا بأنهم لو ردوا لعادوا ، فإن هذا حق ولكن لو أماتهم وأعدمهم فقطع عتابهم كان أصلح لهم ، ولو غفر لهم وأخرجهم من النار كان أصلح من إماتتهم وإعدامهم ، ولم يتضرر - سبحانه - بذلك .

ومنها أن عدم خلق إبليس وجنوده أصلح للخلق وأنفع ، وقد خلقه الباري - جل شأنه . وأيضا إنظاره وتمكينه وتمكين جنوده وجريانهم من الآدمي مجرى الدم في أبشارهم - ينافي مذهبهم ، فكان يلزمهم أن لا يكون شيء من ذلك ، والواقع خلافه . ومنها ما ألزمه الإمام أبو الحسن الأشعري للجبائي ، وقد سأله عن ثلاثة إخوة ، أمات الله أحدهم صغيرا ، وأحيا الآخرين ، فاختار أحدهما الإيمان ، والآخر الكفر ، فرفع الله درجة المؤمن البالغ عن أخيه الصغير في الجنة بعمله ، فقال أخوه الصغير : يا رب لم لا بلغتني منزلة أخي ؟ فقال : إنه عاش وعمل عملا استحق به هذه المنزلة . فقال : يا رب فهلا أحييتني حتى أعمل مثل عمله فأبلغ منزلته ؟ فقال : كان الأصلح لك أن توفيتك صغيرا لأني علمت أنك إن [ ص: 331 ] بلغت اخترت الكفر ، فكان الأصلح لك في حقك أن أمتك صغيرا . قال الأشعري : فإن قال الثاني : يا رب لم لم تمتني صغيرا لئلا أعصي فلا أدخل النار ، ماذا يقول الرب ؟ فبهت الجبائي ، وكان الأشعري على مذهب أبي علي الجبائي ، فترك مذهبه . قال ابن خلكان : كان أبو الحسن الأشعري أولا معتزليا ، ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن ، فقام في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة فرقى كرسيا ، ونادى بأعلى صوته : من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي ، أنا فلان ابن فلان ، كنت أقول بخلق القرآن وأن الله - تعالى - لا يرى بالأبصار ، وأن أفعال البشر أنا أفعلها ، وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم .

قال ابن خلكان : مولد الأشعري سنة سبعين ، وقيل : ستين ومائتين بالبصرة ، وتوفي سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة ، ودفن بين الكرخ وباب البصرة . انتهى . قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة : فإذا علم الله أنه لو اخترم العبد قبل البلوغ وكمال العقل لكان ناجيا ، ولو أمهله وسهل عليه النظر لعند وكفر وجحد ، فكيف يقال إن الأصلح في حقه إبقاؤه حتى يبلغ ، قال : والمقصود عندكم - يعني المعتزلة القائلين بالأصلح - بالتكليف الاستصلاح ، والتفويض بأسنى الدرجات التي لا تنال إلا بالأعمال .

وأيضا قال القائلون بوجوب الأصلح : الرب - تعالى - قادر على التفضل بمثل الثواب ابتداء بلا واسطة عمل ، فأي غرض له في تعريض العباد للبلوى ، والمشاق ؟ وكونه - تعالى - قادرا على ذلك حق ، ثم كذبوا وافتروا فقالوا : الغرض في التكليف أن استيفاء المستحق حقه أهنأ وألذ من قبول التفضل واحتمال المنة .

وهذا كلام أجهل الخلق بالرب - تعالى - وبحقه وعظمته ، ومساواة بينه وبين آحاد الناس ، وهو من أقبح التشبيه وأخبثه ، تعالى عن ضلالهم وإفكهم علوا كبيرا . وأيضا يلزم القائلين بوجوب الأصلح أن يوجبوا على الله - عز وجل - أن يميت كل من علم من الأطفال أنه لو بلغ لكفر وعاند ، فإن اخترامه هو الأصلح له بلا ريب ، أو أن يجحدوا علمه سبحانه بما سيكون قبل كونه التزمه سلفهم الخبيث الذين اتفق سلف الأمة على تكفيرهم ، ولا خلاص لهم عن أحد هذين الإلزامين إلا بالتزام مذهب أهل السنة والجماعة من أن أفعال الله لا تدخل تحت شرائع عقولهم القاصرة ، ولا تقاس بأفعالهم الخاسرة ، بل [ ص: 332 ] أفعاله - تعالى - لا تشبه أفعال خلقه ، ولا صفاته صفاتهم ، ولا ذاته ذواتهم ، إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . وأيضا يلزمهم أن من علم الله - تعالى - إذا بلغ من الأطفال يختار الإيمان ، والعمل الصالح - أن لا يميته طفلا ، فإن الأصلح في حقه أن يحييه حتى يبلغ ويؤمن ويعمل صالحا ، فينال بذلكم الدرجات العالية ، وهذا ما لا جواب لهم عنه ، وأيضا يلزمهم أن يقولوا ليس في مقدور الله - تعالى - لطف لو فعله - تعالى - بالكفار لآمنوا ، وقد التزمه المعتزلة القدرية ، وبنوه على أصلهم الفاسد ، أنه يجب على الله - تعالى - أن يفعل في حق كل عبد ما هو الأصلح له ، فلو كان في مقدوره ما يؤمن العبد عنده لوجب عليه أن يفعله به ، والقرآن من أوله إلى آخره يرد هذا القول ويكذبه ويخبر - سبحانه وتعالى - أنه لو شاء لهدى الناس جميعا ، ولو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعا .

وأيضا يلزمهم - وقد التزموه - أن لطفه - تعالى - ونعمته وتوفيقه بالمؤمن كلطفه بالكافر ، وأن نعمته عليهما سواء ، لم يخص المؤمن بفضل عن الكافر ، وكفى بالوحي وصريح المعقول وفطرة الله والاعتبار الصحيح وإجماع الأمة ردا لهذا القول وتكذيبا له . وأيضا ما من أصلح إلا وفوقه ما هو أصلح منه ، والاقتصار على رتبة واحدة كالاقتصار على الصلاح ، فلا معنى لقولكم يجب مراعاة الأصلح إذ لا نهاية له ، فلا يمكن في الفعل رعايته ، إلى غير ذلك مما يلزم القائلين بالصلاح والأصلح ، فإنه - تعالى - خلق الكافر الفقير المعذب في الدنيا بالأسقام ، والآلام ، والمحن ، والآفات مع الكفر ، والهفوات ، وكيف ينهض لهم دليل وخلود الكفار في النار ليس بأصلح لهم من غير تفصيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية