لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء

( ( وواجب على العباد طرا أن يعبدوه طاعة وبرا ) )


( ( ويفعلوا الفعل الذي به أمر     حتما ويتركوا الذي عنه زجر ) )


( ( وواجب على العباد طرا ) )

أي جميعا ، وفي حديث قس بن ساعدة الإيادي : ومرادا لمحشر الخلق طرا . قال في النهاية : أي جميعا ، وهو منصوب على المصدر أو الحال ( ( أن يعبدوه ) ) - سبحانه وتعالى - ( ( طاعة ) ) أي لأجل الطاعة وامتثال الأمر لما ندب الخلق من التكليف على ألسنة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ( ( وبرا ) ) أي لأجل البر والإحسان الناشئ عنهما المحبة ، قال في النهاية : البر بالكسر الإحسان والتقرب إلى الله - تعالى - . فهو - سبحانه - أهل أن يعبد ، وأهل أن يكون الحب كله له ، والعبادة له حتى لو لم يخلق جنة ولا نارا ، ولا وضع ثوابا ولا عقابا ; لكان - جل شأنه - أهلا أن يعبد أقصى ما تناله قدرة خلقه من العبادة ، وفي بعض الآثار الإلهية : " لو لم أخلق جنة ولا نارا ألم أكن أهلا أن أعبد " وفي الفطرة والعقل ما يقتضي شكره وإفراده بالعبادة كما فيها ما يقتضي تناول المنافع واجتناب المضار ، فإن الله - تعالى - فطر خلقه على محبته ، والإقبال عليه ، وابتغاء الوسيلة إليه ، وأنه لا شيء على الإطلاق أحب إلى العباد منه ، وإن فسدت فطر أكثر الخلق بما طرأ عليها بما اقتطعها واجتالها عما خلق فيها ، قال - تعالى - : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها فبين - سبحانه - أن إقامة الوجه وهو إخلاص القصد وبذل الوسع لدينه المتضمن محبته وعبادته حنيفا مقبلا عليه معرضا عما سواه - هو فطرته التي فطر عليها عباده ، فلو خلوا ودواعي فطرهم لما مالوا عن ذلك ولا اختاروا سواه ، ولكن غيرت الفطر وأفسدت كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج [ ص: 354 ] البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها " ثم يقول أبو هريرة - رضي الله عنه - اقرءوا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه و " منيبين " نصب على الحال من المفعول ، أي : فطرهم منيبين إليه ، والإنابة إليه تتضمن الإقبال عليه بمحبته وحده والإعراض عما سواه . وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار - بكسر الحاء المهملة - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في مقامي هذا أنه قال : كل ما نحلته عبدا فهو له حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاستجالتهم عن دينهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " فأخبر سبحانه أنه إنما خلق عباده على الحنيفية المتضمنة لكمال حبه ، والخضوع له ، والذل له ، وكمال طاعته وحده دون غيره ، وهذا من الحق الذي خلقت له ، وبه قامت السماوات والأرض وما بينهما ، وعليه قام العلم ، ولأجله خلقت الجنة والنار ، ولأجله أرسل رسله ، وأنزل كتبه ، ولأجله أهلك القرون التي خرجت عنه وآثرت غيره ، فكونه سبحانه أهلا أن يعبد ويحب ويثنى عليه أمر ثابت له لذاته ، فهو سبحانه الإله الحق المبين ، والإله هو الذي يستحق أن يؤله محبة وتعظيما وخشية وخضوعا وتذللا وعبادة ، فهو الإله الحق ولو لم يخلق خلقه ، وهو الإله الحق ولو لم يعبدوه ، فهو المعبود حقا ، الإله حقا ، المحمود حقا ، ولو قدر أن خلقه لم يعبدوه ولم يحمدوه ولم يؤلهوه ؛ لم يستحدث - تعالى - بخلقه لهم ولا بأمره إياهم استحقاق الإلهية والحمد ، بل إلهيته وحمده ومجده وغناه أوصاف ذاتية له - سبحانه ، يستحيل مفارقتها له كحياته ووجوده وقدرته وعلمه وسائر صفات كماله .

وقد جاءت الرسل وأنزلت الكتب بتقرير ما استودع - سبحانه - في الفطر والعقول من ذلك ، وتكميله وتفصيله وزيادته حسنا إلى حسنه ، فاتفقت شريعته وفطرته وتطابقا وتوافقا ، فعبده عباده وأحبوه ومجدوه بداعي الشرع وداعي الفطرة والعقل ، فاجتمعت لهم الدواعي ودعتهم إلى وليهم وإلههم وفاطرهم ، فأقبلوا إليه بقلوب سليمة لم يعارض خبره عندها شبهة [ ص: 355 ] توجب ريبا وشكا ، ولا أمره شهوة توجب رغبتها عنه وإيثارها سواه ، وقد قام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تفطرت قدماه ، فقيل له : تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : " أفلا أكون عبدا شكورا " واقتصر - صلى الله عليه وسلم - من جوابهم على ما تدركه عقولهم ، وتناله أفهامهم ، وإلا فمن المعلوم أن باعثه على ذلك الشكر أمر يجل على الوصف ، ولا تحيط به العبارة والأذهان ، فأين هذا الشهود من شهود طائفتي القدرية والجبرية .

واعلم أنه لا يمكن أحدا من خلقه قط أن يعبده - تعالى - حق عبادته ، ولا يوفيه حقه من المحبة ، والحمد ، ولهذا قال أكمل خلقه وأفضلهم وأعرفهم به وأحبهم إليه وأطوعهم له : " لا أحصي ثناء عليك " وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن عمله لا يستقل بالنجاة ، فقال : " لن ينجي أحدا منكم عمله " قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " وفي الحديث المرفوع المشهور : إن من الملائكة من هو ساجد لا يرفع رأسه منذ خلق ، ومنهم راكع لا يرفع رأسه من الركوع منذ خلق إلى يوم القيامة ، وإنهم يقولون يوم القيامة : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك .

ولما كانت عبادته - سبحانه وتعالى - تابعة لمحبته وإجلاله ، وكانت المحبة نوعين : محبة تنشأ عن الإنعام ، والإحسان فتوجب شكرا وعبودية ، بحسب كمالها ونقصانها ، ومحبة تنشأ عن جمال المحبوب وكماله ، فتوجب عبودية وطاعة أمر واجتناب نهي أكمل من الأولى ، وكان الباعث على الطاعة والعبودية أن لا يخرج عن هذين النوعين ، قال الناظم عاطفا امتثال الأمر والانتهاء عما عنه الزجر : ( ( ويفعلوا ) ) يعني العباد ( ( الفعل الذي به أمر ) ) - سبحانه وتعالى - ، أي الفعل الذي أمر به ، فإن كان على سبيل الحتم والتأكيد فعلوه على الوجوب ، وإن كان على سبيل الندب والإرشاد فعلى الندب ; ولهذا قال ( ( حتما ) ) أي لازما ، مصدر حتم ، يعني أنهم يفعلون ما أمر الله به أمرا على سبيل الحتم واللزوم ، وأما إذا كان الأمر لا على سبيل الحتم ففعله غير لازم ، بل هو مندوب ومرغوب فيه ومستحب ، قال في النهاية : الحتم اللازم الواجب الذي لا بد من فعله ( ( و ) ) أن ( ( يتركوا ) ) الشيء ( ( الذي عنه زجر ) ) ولا يخفى أن الزجر يفيد التحريم ; لأن معنى الزجر المنع . قال في القاموس : زجره منعه [ ص: 356 ] ونهاه كأزجره فانزجر وازدجر ، فإن لم يكن على سبيل الزجر والتحتيم فيكون للكراهة وخلاف الأولى ، وتركه على سبيل الندب والاستحباب . فتكون الطاعة تارة تقع عن محبة وشوق ، وأخرى عن خوف مقرون بحب ، وأما من أتى بصورة الطاعة خوفا مجردا عن الحب ، فليس بمطيع ولا عابد ، وإنما هو كالمكره ، أو كأجير السوء الذي إن أعطي عمل ، وإن لم يعط كفر وأبق ، فالعبادة والطاعة الناشئة عن محبة الكمال والجلال أعظم من الطاعة الناشئة عن رؤية الإنعام ، والإفضال ، والإحسان ، فإن الذوق السليم يدرك الفرق بين ما تعلق بالحي القيوم الذي لا يموت ، وبين ما تعلق بالمخلوق من رغبة في جنة ، أو خوف من نار ، وإن شمل النوعين اسم المحبة ; لأن من يحبك لذاتك وأوصافك وجمالك أتم وأكمل وأعظم ممن يحبك لخيرك ودينارك . وأسماء الله الحسنى ، والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين ، فأمره - سبحانه وتعالى - ونهيه هو موجب أسمائه وصفاته في العالم وآثارها ومقتضاها ، من غير أن يتزين - تعالى - بطاعة ولا يشان بمعصية ، وتأمل قوله - تعالى - في الحديث القدسي : " عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني " الحديث ، فبين - سبحانه - أن ما أمرهم به من الطاعات وما نهاهم عنه من السيئات ، لا يتضمن استجلاب نفعهم ولا اندفاع ضرهم ، كأمر السيد عبده ، والوالد ولده ، والإمام رعيته بما ينفع الآمر والمأمور به ، ونهيهم عما يضر الناهي ، والمنهي ، بل هو - سبحانه - المنزه عن لحوق نفعهم وضرهم به في إحسانه إليهم بما يفعله بهم ، وبما يأمرهم به من إجابة الدعوات وغفران الزلات وتفريج الكربات ، فليس ذلك لاستجلاب منفعة ولا لدفع مضرة ، فإنه الغني الحميد ، ولكن له - سبحانه - في تكليف عباده وأمرهم ونهيهم من الحكم البالغة ما يقتضيه ملكه التام وحمده وحكمته . ولو لم يكن من ذلك إلا أنه يستوجب من عباده شكر نعمه التي لا تحصى ، ومننه التي لا تستقصى بحسب قواهم وطاقتهم ، لا بحسب ما ينبغي له ، فإنه أعظم وأجل من أن يقدر خلقه عليه ؛ لكان كافيا . فلا شيء أحسن في العقول والفطر من شكر المنعم ولا أنفع للعبد منه ، فهذان مسلكان آخران في التكليف ، والأمر والنهي ، أحدهما يتعلق بذاته - تعالى - وصفاته ، وأنه أهل لذلك ، والثاني يتعلق [ ص: 357 ] بإحسانه وإنعامه ولا سيما مع غناه عن عباده ، وأنه إنما يحسن إليهم رحمة منه ، وجودا وكرما لا لمعارضة ولا لاستجلاب منفعة ، ولا لدفع مضرة ، فأي المسلكين سلكه العبد أوقعه على محبته وبذل الجهد في مرضاته . ذكر ذلك في مفتاح دار السعادة ، وأطال جدا ، فلخص منه هذا ، وبالله التوفيق . قال ابن حمدان في نهاية المبتدئين : يجب امتثال أمره - تعالى - واجتناب نهيه الجازمين ، ويستحب في غيرهما ، ويلزم به الطاعة ، والخضوع ، والإخلاص في الكل .

قال : والأمر بالشيء نهي عن ضده معنى ، والنهي عنه أمر بضده معنى ، إن كان ضده واحدا ، أو أحدها إن كانت أكثر من واحد ، والأمر والنهي المطلقان للفور والتكرار الممكن شرعا ، كما هو مذكور في محاله من أصول الفقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية