الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء

( ( وواجب على العباد طرا أن يعبدوه طاعة وبرا ) )


( ( ويفعلوا الفعل الذي به أمر     حتما ويتركوا الذي عنه زجر ) )


( ( وواجب على العباد طرا ) )

أي جميعا ، وفي حديث قس بن ساعدة الإيادي : ومرادا لمحشر الخلق طرا . قال في النهاية : أي جميعا ، وهو منصوب على المصدر أو الحال ( ( أن يعبدوه ) ) - سبحانه وتعالى - ( ( طاعة ) ) أي لأجل الطاعة وامتثال الأمر لما ندب الخلق من التكليف على ألسنة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ( ( وبرا ) ) أي لأجل البر والإحسان الناشئ عنهما المحبة ، قال في النهاية : البر بالكسر الإحسان والتقرب إلى الله - تعالى - . فهو - سبحانه - أهل أن يعبد ، وأهل أن يكون الحب كله له ، والعبادة له حتى لو لم يخلق جنة ولا نارا ، ولا وضع ثوابا ولا عقابا ; لكان - جل شأنه - أهلا أن يعبد أقصى ما تناله قدرة خلقه من العبادة ، وفي بعض الآثار الإلهية : " لو لم أخلق جنة ولا نارا ألم أكن أهلا أن أعبد " وفي الفطرة والعقل ما يقتضي شكره وإفراده بالعبادة كما فيها ما يقتضي تناول المنافع واجتناب المضار ، فإن الله - تعالى - فطر خلقه على محبته ، والإقبال عليه ، وابتغاء الوسيلة إليه ، وأنه لا شيء على الإطلاق أحب إلى العباد منه ، وإن فسدت فطر أكثر الخلق بما طرأ عليها بما اقتطعها واجتالها عما خلق فيها ، قال - تعالى - : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها فبين - سبحانه - أن إقامة الوجه وهو إخلاص القصد وبذل الوسع لدينه المتضمن محبته وعبادته حنيفا مقبلا عليه معرضا عما سواه - هو فطرته التي فطر عليها عباده ، فلو خلوا ودواعي فطرهم لما مالوا عن ذلك ولا اختاروا سواه ، ولكن غيرت الفطر وأفسدت كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج [ ص: 354 ] البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها " ثم يقول أبو هريرة - رضي الله عنه - اقرءوا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه و " منيبين " نصب على الحال من المفعول ، أي : فطرهم منيبين إليه ، والإنابة إليه تتضمن الإقبال عليه بمحبته وحده والإعراض عما سواه . وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار - بكسر الحاء المهملة - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في مقامي هذا أنه قال : كل ما نحلته عبدا فهو له حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاستجالتهم عن دينهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " فأخبر سبحانه أنه إنما خلق عباده على الحنيفية المتضمنة لكمال حبه ، والخضوع له ، والذل له ، وكمال طاعته وحده دون غيره ، وهذا من الحق الذي خلقت له ، وبه قامت السماوات والأرض وما بينهما ، وعليه قام العلم ، ولأجله خلقت الجنة والنار ، ولأجله أرسل رسله ، وأنزل كتبه ، ولأجله أهلك القرون التي خرجت عنه وآثرت غيره ، فكونه سبحانه أهلا أن يعبد ويحب ويثنى عليه أمر ثابت له لذاته ، فهو سبحانه الإله الحق المبين ، والإله هو الذي يستحق أن يؤله محبة وتعظيما وخشية وخضوعا وتذللا وعبادة ، فهو الإله الحق ولو لم يخلق خلقه ، وهو الإله الحق ولو لم يعبدوه ، فهو المعبود حقا ، الإله حقا ، المحمود حقا ، ولو قدر أن خلقه لم يعبدوه ولم يحمدوه ولم يؤلهوه ؛ لم يستحدث - تعالى - بخلقه لهم ولا بأمره إياهم استحقاق الإلهية والحمد ، بل إلهيته وحمده ومجده وغناه أوصاف ذاتية له - سبحانه ، يستحيل مفارقتها له كحياته ووجوده وقدرته وعلمه وسائر صفات كماله .

وقد جاءت الرسل وأنزلت الكتب بتقرير ما استودع - سبحانه - في الفطر والعقول من ذلك ، وتكميله وتفصيله وزيادته حسنا إلى حسنه ، فاتفقت شريعته وفطرته وتطابقا وتوافقا ، فعبده عباده وأحبوه ومجدوه بداعي الشرع وداعي الفطرة والعقل ، فاجتمعت لهم الدواعي ودعتهم إلى وليهم وإلههم وفاطرهم ، فأقبلوا إليه بقلوب سليمة لم يعارض خبره عندها شبهة [ ص: 355 ] توجب ريبا وشكا ، ولا أمره شهوة توجب رغبتها عنه وإيثارها سواه ، وقد قام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تفطرت قدماه ، فقيل له : تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : " أفلا أكون عبدا شكورا " واقتصر - صلى الله عليه وسلم - من جوابهم على ما تدركه عقولهم ، وتناله أفهامهم ، وإلا فمن المعلوم أن باعثه على ذلك الشكر أمر يجل على الوصف ، ولا تحيط به العبارة والأذهان ، فأين هذا الشهود من شهود طائفتي القدرية والجبرية .

واعلم أنه لا يمكن أحدا من خلقه قط أن يعبده - تعالى - حق عبادته ، ولا يوفيه حقه من المحبة ، والحمد ، ولهذا قال أكمل خلقه وأفضلهم وأعرفهم به وأحبهم إليه وأطوعهم له : " لا أحصي ثناء عليك " وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن عمله لا يستقل بالنجاة ، فقال : " لن ينجي أحدا منكم عمله " قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " وفي الحديث المرفوع المشهور : إن من الملائكة من هو ساجد لا يرفع رأسه منذ خلق ، ومنهم راكع لا يرفع رأسه من الركوع منذ خلق إلى يوم القيامة ، وإنهم يقولون يوم القيامة : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك .

ولما كانت عبادته - سبحانه وتعالى - تابعة لمحبته وإجلاله ، وكانت المحبة نوعين : محبة تنشأ عن الإنعام ، والإحسان فتوجب شكرا وعبودية ، بحسب كمالها ونقصانها ، ومحبة تنشأ عن جمال المحبوب وكماله ، فتوجب عبودية وطاعة أمر واجتناب نهي أكمل من الأولى ، وكان الباعث على الطاعة والعبودية أن لا يخرج عن هذين النوعين ، قال الناظم عاطفا امتثال الأمر والانتهاء عما عنه الزجر : ( ( ويفعلوا ) ) يعني العباد ( ( الفعل الذي به أمر ) ) - سبحانه وتعالى - ، أي الفعل الذي أمر به ، فإن كان على سبيل الحتم والتأكيد فعلوه على الوجوب ، وإن كان على سبيل الندب والإرشاد فعلى الندب ; ولهذا قال ( ( حتما ) ) أي لازما ، مصدر حتم ، يعني أنهم يفعلون ما أمر الله به أمرا على سبيل الحتم واللزوم ، وأما إذا كان الأمر لا على سبيل الحتم ففعله غير لازم ، بل هو مندوب ومرغوب فيه ومستحب ، قال في النهاية : الحتم اللازم الواجب الذي لا بد من فعله ( ( و ) ) أن ( ( يتركوا ) ) الشيء ( ( الذي عنه زجر ) ) ولا يخفى أن الزجر يفيد التحريم ; لأن معنى الزجر المنع . قال في القاموس : زجره منعه [ ص: 356 ] ونهاه كأزجره فانزجر وازدجر ، فإن لم يكن على سبيل الزجر والتحتيم فيكون للكراهة وخلاف الأولى ، وتركه على سبيل الندب والاستحباب . فتكون الطاعة تارة تقع عن محبة وشوق ، وأخرى عن خوف مقرون بحب ، وأما من أتى بصورة الطاعة خوفا مجردا عن الحب ، فليس بمطيع ولا عابد ، وإنما هو كالمكره ، أو كأجير السوء الذي إن أعطي عمل ، وإن لم يعط كفر وأبق ، فالعبادة والطاعة الناشئة عن محبة الكمال والجلال أعظم من الطاعة الناشئة عن رؤية الإنعام ، والإفضال ، والإحسان ، فإن الذوق السليم يدرك الفرق بين ما تعلق بالحي القيوم الذي لا يموت ، وبين ما تعلق بالمخلوق من رغبة في جنة ، أو خوف من نار ، وإن شمل النوعين اسم المحبة ; لأن من يحبك لذاتك وأوصافك وجمالك أتم وأكمل وأعظم ممن يحبك لخيرك ودينارك . وأسماء الله الحسنى ، والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين ، فأمره - سبحانه وتعالى - ونهيه هو موجب أسمائه وصفاته في العالم وآثارها ومقتضاها ، من غير أن يتزين - تعالى - بطاعة ولا يشان بمعصية ، وتأمل قوله - تعالى - في الحديث القدسي : " عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني " الحديث ، فبين - سبحانه - أن ما أمرهم به من الطاعات وما نهاهم عنه من السيئات ، لا يتضمن استجلاب نفعهم ولا اندفاع ضرهم ، كأمر السيد عبده ، والوالد ولده ، والإمام رعيته بما ينفع الآمر والمأمور به ، ونهيهم عما يضر الناهي ، والمنهي ، بل هو - سبحانه - المنزه عن لحوق نفعهم وضرهم به في إحسانه إليهم بما يفعله بهم ، وبما يأمرهم به من إجابة الدعوات وغفران الزلات وتفريج الكربات ، فليس ذلك لاستجلاب منفعة ولا لدفع مضرة ، فإنه الغني الحميد ، ولكن له - سبحانه - في تكليف عباده وأمرهم ونهيهم من الحكم البالغة ما يقتضيه ملكه التام وحمده وحكمته . ولو لم يكن من ذلك إلا أنه يستوجب من عباده شكر نعمه التي لا تحصى ، ومننه التي لا تستقصى بحسب قواهم وطاقتهم ، لا بحسب ما ينبغي له ، فإنه أعظم وأجل من أن يقدر خلقه عليه ؛ لكان كافيا . فلا شيء أحسن في العقول والفطر من شكر المنعم ولا أنفع للعبد منه ، فهذان مسلكان آخران في التكليف ، والأمر والنهي ، أحدهما يتعلق بذاته - تعالى - وصفاته ، وأنه أهل لذلك ، والثاني يتعلق [ ص: 357 ] بإحسانه وإنعامه ولا سيما مع غناه عن عباده ، وأنه إنما يحسن إليهم رحمة منه ، وجودا وكرما لا لمعارضة ولا لاستجلاب منفعة ، ولا لدفع مضرة ، فأي المسلكين سلكه العبد أوقعه على محبته وبذل الجهد في مرضاته . ذكر ذلك في مفتاح دار السعادة ، وأطال جدا ، فلخص منه هذا ، وبالله التوفيق . قال ابن حمدان في نهاية المبتدئين : يجب امتثال أمره - تعالى - واجتناب نهيه الجازمين ، ويستحب في غيرهما ، ويلزم به الطاعة ، والخضوع ، والإخلاص في الكل .

قال : والأمر بالشيء نهي عن ضده معنى ، والنهي عنه أمر بضده معنى ، إن كان ضده واحدا ، أو أحدها إن كانت أكثر من واحد ، والأمر والنهي المطلقان للفور والتكرار الممكن شرعا ، كما هو مذكور في محاله من أصول الفقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية