لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( الثانية ) : ذهب جماعة من العلماء منهم الحافظ عماد الدين بن كثير إلى أن النساء لا يرين الله تبارك وتعالى في الآخرة ، وذهب جماعة أيضا منهم العز بن عبد السلام ، وتبعه صاحب آكام المرجان وابن جماعة إلى أن الملائكة لا يرون الله أيضا تبارك وتعالى في الجنة ، وهذا خلاف التحقيق ، فإن النص الصريح والخبر الصحيح يرد هذا ويبعده ويبطله ويدحضه ويطرده ، فعند الدارقطني مرفوعا " إذا كان يوم القيامة [ ص: 248 ] رأى المؤمنون ربهم - عز وجل - فأحدثهم عهدا بالنظر إليه في كل جمعة ، قال : ويراه المؤمنات يوم الفطر ويوم الأضحى " أي : في مثل يوم الفطر ويوم الأضحى ، وعموم الأحاديث شاملة للنساء من غير توقف .

وأخرج الآجري عن عكرمة قال : قيل لابن عباس - رضي الله عنهما - كل من يدخل الجنة يرى الله تعالى ؟ قال : نعم .

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية ( رب أرني أنظر إليك ) ، قال : يا موسى إنه لن يراني أحد إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده ، ولا رطب إلا تفرق ، وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ، ولا تبلى أجسادهم " . وبظاهر حديث الدارقطني أخذ ابن كثير فاختار أن النساء يرين ربهم في الأعياد دون الجمع ، وبه جزم الحافظ السيوطي ، لكنه يحتاج إلى دليل خاص أقوى من حديث الدارقطني ، واستثنى الحافظ السيوطي زوجات الأنبياء عليهم السلام وبناته فيرينه تعالى في غير الأعياد ، كما أن أبا بكر وعمر يريانه تعالى أزيد من غيرهما من غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، قلت : ومريم ابنة عمران ، وامرأة فرعون ينبغي أن تكون من المستثنيات ، وكذا نحوهما كأم موسى وأخته ، والله أعلم .

وفي آخر البدور السافرة للحافظ السيوطي : وقع في كلام بعض الأئمة أن رؤية الله تعالى خاصة بمؤمني البشر ، وأن الملائكة لا يرونه ، واحتج له بقوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) فإنه عام خص منه بالآية والأحاديث في المؤمنين فيبقى على عمومه في الملائكة .

قال السيوطي : وقد نص البيهقي على خلافه فقال في كتاب الرؤية : ذكر ما جاء في رؤية الملائكة ربهم - فأخرج عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : خلق الله الملائكة لعبادته أصنافا ، وإن منهم لملائكة قياما صافين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة ، وملائكة ركوعا خشوعا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة ، فإذا كان يوم القيامة ، قالوا : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك . ثم أخرج من وجه آخر عن عدي بن أرطاة عن رجل من الصحابة - رضي الله عنهم - أن رسول الله صلى [ ص: 249 ] عليه وسلم قال " إن لله ملائكة ترعد فرائصهم من مخافة ما عندهم ، ملك ما تقطر دمعة من عينه إلا وقعت ملكا يسبح ، وملائكة سجودا منذ خلق الله السماوات والأرض لا يرفعون رءوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ، فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم ربهم فينظرون إليه قالوا : سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك " انتهى .

والحق الذي لا مرية فيه أنهم يرونه تعالى ، بل ومؤمنو الجن ، إما في الموقف فجزما مع سائر المؤمنين ، وإما في الجنة ، ففي بعض الأوقات على ما يظهر ، بل الظاهر أنهم يرونه إلا أنهم دون مؤمني الإنس في الرؤية في كل جمعة ، والحاصل أن رؤية الرب جل جلاله في الموقف حاصلة حتى لمنافقي هذه الأمة على الأصح ، وأما الرؤيا في الجنة فأجمع أهل السنة أنها حاصلة للأنبياء والرسل والصديقين من كل أمة ورجال المؤمنين من البشر من هذه الأمة ، واختلف في غيرهم ، وقد جزم الحافظ ابن رجب في اللطائف بأن كل يوم عيد للمسلمين في الدنيا فإنه عيد لهم في الجنة يجتمعون فيه على زيارة ربهم ، ويتجلى لهم فيه فينظرون إليه ، فما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم من ذلك ، وهو الزيادة التي قال الله تعالى فيها ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ويوم الجمعة في الجنة يدعى يوم المزيد ، [ ص: 250 ] ويوم الفطر والأضحى يجتمع أهل الجنة فيها . قال الحافظ ابن رجب في اللطائف : روي أنه يشارك النساء الرجال فيهما كما كن يشهدن العيدين مع الرجال دون الجمعة ، قال : فهذا لعموم أهل الجنة ، فأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يزورون فيه ربهم كل يوم مرتين بكرة وعشيا ، لأن الخواص كانت أيام الدنيا كلها لهم أعيادا ، فصارت أيامهم في الآخرة كلها أعيادا ، قال الحسن - رحمه الله تعالى : كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد ، فاليوم الذي يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذكره وشكره فهو له عيد . انتهى ملخصا .

وفي التذكرة للقرطبي : إن الناس يرون ربهم في الموقف ثم يحجبون إلى أن لا يبقى في النار ممن يدخل الجنة أحد ، فيؤذن لهم فيرونه في الجنة ، ثم لا يحجبون بعد ذلك أصلا ، ولا في حال تمتعاتهم ، وقد قيل : إن الكفار كالمنافقين يرونه تعالى ثم يحجبون عنه فتكون الحجبة حسرة عليهم ، وخص النووي الخلاف بالمنافق ، وأما الكافر غير المنافق فلا يراه تعالى اتفاقا ، كما لا يراه غير العقلاء من سائر الحيوانات ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية