لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( ( الباب الخامس ) )

( في ذكر النبوة وذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - وذكر بعض الأنبياء وفضله وفضل أصحابه وأمته صلى الله عليه وسائر الأنبياء والمرسلين وسلم وعظم وكرم ) اعلم أن حاجة الخلق إلى إرسال الرسل وبعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ضرورية ، لا ينتظم لهم حال ، ولا يصلح لهم دين ولا بال إلا بذلك ، فهم أشد احتياجا إلى ذلك من إرسال المطر والهواء ، بل ومن النفس الذي لابد لهم منه ، كما في مفتاح دار السعادة للمحقق ابن القيم رحمه الله تعالى ، وأحالت السمنية إرسال الرسل لتوقيفه على علم المرسل بمن أرسله ، ولا طريق إليه إلا الخبر ، وأعلى أنواعه المتواتر وهو لا يفيد عندهم علما ، فلعل القائل له أرسلناك إلى قوم كذا شيطان مثلا .

وزعمت البراهمة وهم طائفة من المجوس أن إرسال الرسل عبث لا يليق بالحكيم لإغناء العقل عن الرسل ، لأن ما جاء به الرسل إن كان موافقا للعقل حسنا عنده فهو يفعله وإن لم يأت به ، وإن كان مخالفا له قبيحا فإن احتاج إليه فعله ، وإلا تركه ، وقالت المعتزلة بوجوب ذلك على الله تعالى بالنظر إلى ذاته .

والحق أنه جائز عقلا في حقه تعالى واجب سمعا وشرعا ، وإلى ذلك أشار بقوله : [ ص: 257 ]

( ( ومن عظيم منة السلام ولطفه بسائر الأنام ) )      ( أن أرشد الخلق إلى الوصول
مبينا للحق بالرسول )



( ( ومن عظيم منة ) ) الرب ( ( السلام ) ) المنة مأخوذة من المن ، وهو الإحسان إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء عليه ، ومن أسماء الله المنان ، وهو المنعم المعطي من المن وهو العطاء ، وقد يقع المنان على الذي لا يعطي شيئا إلا منه واعتد به على من أعطاه ، وهو مذموم ، لأن المنة تفسد الصنيعة إذا كانت من غير الباري جل وعلا ، والسلام من أسمائه تعالى ، ومعناه ذو السلامة من كل عيب ونقيصة ، فيكون من أسماء التنزيه ، وقيل معناه مالك تسليم العباد من المهالك فيرجع إلى معنى القادر ، وقيل ذو السلام على المؤمنين في الجنان فيرجع إلى الكلام القديم الأزلي قال تعالى ( سلام قولا من رب رحيم ) والفرق بين القدوس والسلام أن القدوس فيه إشارة إلى أنه بريء من جميع العيوب والنقائص في الماضي والحاضر ، والسلام فيه إشارة إلى أنها لا يطرأ عليه شيء من ذلك في المستقبل ( ( و ) ) من عظيم ( ( لطفه ) ) تعالى أي رفقه ( ( بسائر ) ) أي : جميع ( ( الأنام ) ) كسحاب ، والآنام بالمد والأنيم كأمير الخلق أو الإنس والجن وجميع ما على وجه الأرض ، أي : من رفقه تعالى بهم في الفعل والعلم بدقائق المصالح وإيصالها إلى من قدرها له من خلقه ، يقال : لطف به وله بالفتح يلطف لطفا إذا رفق به ، وأما لطف بالضم يلطف فمعناه صغر ودق ، ومن أسماء الله تعالى اللطيف وهو الذي اجتمع له الرفق في الفعل والعلم .

وإنما عدل عن قوله : منة المنان ولطفه بسائر الإنسان لعدم شمول نحو الجن ، فبسبب عموم الأنام على الإنسان عدل إليه ، لأن الإنسان كالإنس البشر ، والمن بإرسال الرسل شاملة للثقلين بل لكل الخلق ، والله أعلم .

( ( أن ) ) بفتح الهمزة وسكون النون حرف مصدري تسبك مع ما بعدها بمصدر ( ( أرشد ) ) أي : هدى ودل ودعا سبحانه وتعالى ، يقال : رشد كنصر وفرح رشدا ورشادا هدى ، واسترشد طلب الرشد ، والرشد الاستقامة على طريق الخلق مع تصلب فيه ، والرشيد من أسماء الله تعالى الهادي إلى [ ص: 258 ] سواء الصراط ، والذي حسن تقديره فيما قدره ، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مبتدأ ، والخبر في البيت قبله ، ومن عظيم . . . إلخ ، والتقدير : رشد الخلق إلى الوصول كان من عظيم منة السلام ( ( الخلق ) ) من الثقلين الإنس والجن ( ( إلى الوصول ) ) إلى معرفة الله تعالى وعبادته ، والقيام بما شرعه من التكليف الذي ثمرته الفوز بالسلامة الأبدية ، والسعادة السرمدية ، والنعيم المقيم في جنات النعيم ، ورضى الرب الرحمن ، والنظر إليه في دار القرار ، مع الأتقياء الأخيار ، والأولياء الأبرار ، حال كونه تعالى ( مبينا ) أي مظهرا وموضحا ( ( لـ ) ) نهج ( ( الحق ) ) ، وهو الحكم المطابق للواقع ، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ، ويقابله الباطل ، ومن أسمائه تعالى الحق أو من صفاته ، وأما الصدق ، فقد شاع في الأقوال ويقابله الكذب ، ويفرق بين الحق والصدق بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع ، والصدق من جانب الحكم ، فعلى هذا معنى صدق الحكم مطابقة الواقع ، ومعنى حقيقته مطابقة الواقع إياه ، والمشهور فيهما مطابقة كل واحد منهما للواقع ( ( بالرسول ) ) متعلق بمبين ، والرسول إنسان أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ، فإن لم يؤمر بتبليغه فنبي فقط ، وتقدم في صدر الكتاب ، وسئل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح ابن حبان عن عدد الأنبياء فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر . وفي رواية : أربعة عشر . والأولى عدم حصرهم في عدد معين ؛ لأن الحديث ضعيف ، وربما خالف قوله تعالى ( منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ) فلا يؤمن من دخول من ليس منهم فيهم ، وخروج بعضهم عنهم ، وأولوا العزم منهم خمسة محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح عليهم الصلاة والسلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية