لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء

( ( منها كلام الله معجز الورى كذا انشقاق البدر في غير امترا ) )

( ( منها ) ) أي من معجزات نبينا خاتم الأنبياء والمرسلين بل أعظمها وأجلها ، ( ( كلام الله ) ) المنزل على النبي المرسل ، ( ( معجز الورى ) ) كفتى : الخلق جميعهم إنسهم وجنهم ، وأولهم وآخرهم فهو معجز بنفسه ليس في وسع البشر الإتيان بسورة من مثله كما تقدم ذلك موضحا ، و ( ( كذا ) ) من غرر معجزاته - صلى الله عليه وسلم - ( ( انشقاق البدر ) ) أي القمر ، قال في القاموس : والبدر : القمر الممتلئ . انتهى .

وهو أحد الكواكب السيارة التي هي الشمس والقمر والزهرة وعطارد والمريخ والمشترى وزحل ، فانشقاق القمر نصفين ثابت ، ( ( من غير امترا ) ) أي من غير شك ولا جدل ، مأخوذ من المرية - بالضم والكسر - والشك والجدل ، يقال : ماراه مماراة ومراء وامترى فيه وتمارى : شك كما في القاموس . وفي النهاية المراء الجدال [ ص: 292 ] والتماري والمماراة : المجادلة على مذهب الشك والريبة . انتهى .

وإنما قال من غير امترا لثبوت ذلك وظهوره لكل أحد ظهورا تاما وثبوتا جازما ، وقصة ذلك كما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن أهل مكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما .

وقال شيبان عن قتادة : فأراهم انشقاق القمر مرتين .

وفي حديث ابن مسعود عند البخاري ومسلم وغيرهما قال : انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اشهدوا .

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : اجتمع المشركون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن فعلت تؤمنون ؟ قالوا : نعم . فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه - عز وجل - أن يعطيه ما سألوا ، فانشق القمر فرقتين ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي : يا فلان يا فلان اشهدوا ، وذلك بمكة قبل الهجرة .

وقال مجاهد : انشق القمر فبقيت فرقة من وراء الجبل . وقال ابن زيد : لما انشق القمر كان يرى بجبل قعيقعان النصف وبأبي قبيس النصف الآخر . قال في النهاية : قعيقعان جبل بمكة قيل : سمي بذلك لأن جرهما لما تحاربوا كثرت قعقعة السلاح هناك ، وجبل أبي قبيس مشهور معلوم بمكة .

وروى الإمام أحمد من حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال : انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصار فرقتين فرقة على هذا الجبل ، وفرقة على هذا الجبل فقالوا : سحرنا محمد وقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم ، فاسألوا فإن شهدوا بما أبصرتموه فهو حق وليس هو سحرا ، فسألوا من كان مسافرا عن مكة من أهلها ومن غيرهم فأخبروهم أنهم رأوا ذلك فتمادوا في كفرهم وعتوهم ولم يؤمنوا .

وروى الطبراني عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال قوم : هذا سحر سحركم ابن أبي كبشة فاسألوا السفار يقدمون عليكم فإن كان مثل ما رأيتم فقد صدق وإلا فهو سحر ، فقدم السفار فسألوهم فقالوا : نعم قد رأينا ، قد انشق القمر .

وأخرج أبو داود عن ابن عمر - رضي الله عنهما - في قوله تعالى : ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) قال : [ ص: 293 ] انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ( قلت ) قد ثبت انشقاق القمر بنص القرآن العظيم ، وبالسنة الصحيحة الصريحة عن الرسول الكريم ، وقد بلغت الأحاديث بذلك مبلغ التواتر وأجمع على ذلك أهل الحق .

وهذا الانشقاق الواقع للقمر من خصائص نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - التي اختص بها عن سائر النبيين والمرسلين - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - فلم يشركه في ذلك غيره ولم يقع لأحد سواه وهو من أمهات معجزاته التي لا يكاد يعدلها بعد القرآن شيء ، ولا يعدلها آية من آيات الأنبياء - عليهم السلام - لظهور ذلك في ملكوت السماوات خارجا عن جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع ، فهو آية ومعجزة جسيمة ولهذا قرنها بمعجزة القرآن واقتصر عليهما من المعجزات ، لأن فيهما كفاية عما سواهما وإلا فمعجزاته - صلى الله عليه وسلم - لا تحصى ودلائل نبوته لا تستقصى .

التالي السابق


الخدمات العلمية