لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( الثاني ) متعلق وجوب الإنكار الرؤية للمنكر وتحققه ، فلو كان مستورا فلم يروه ولكن علم به ، فالمذهب يجب عليه الإنكار لتحققه والمنصوص عن الإمام أحمد أنه لا يتعرض له ولا يفتش على ما استراب ، وقد روي عنه أنه يكسر المغطى إذا تحققه وهذا المعتمد ، وأما إذا سمع صوت ملهاة ولم يعلم مكانه فلا شيء عليه ، وأما تسور الجدران على من علم اجتماعهم على منكر فقد أنكره الأئمة مثل سفيان الثوري وغيره ، وهو داخل في التجسس المنهي عنه ، نعم قال القاضي أبو يعلى في كتابه الأحكام السلطانية : إن كان في المنكر الذي غلب على ظنه الاستسرار به بإخبار ثقة عنه انتهاك حرمة يفوت استدراكها كالزنا والقتل جاز التجسس والإقدام على الكشف والبحث حذرا من فوات استدراك انتهاك المحارم ، وإن كان دون ذلك في الرتبة لم يجز التجسس عليه ولا الكشف عنه . انتهى .

وحكمة عدم وجوب التفتيش مع وجود النصوص على التجسس أن المعاصي إذا خفيت إنما تضر من يعملها ، وإذا أعلنت ضرت العامة فأخرج الإمام أحمد من حديث عدي بن عميرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه ، فإذا فعلوا [ ص: 434 ] ذلك عذب الله الخاصة والعامة " . وخرج الإمام أحمد أيضا وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله تعالى ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول : ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره ؟ فإذا لقن الله عبدا حجته قال : يا رب رجوتك وفرقت الناس " . وأخرجا من حديثه أيضا مرفوعا : " لا يحقر أحدكم نفسه ، قالوا : يا رسول كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال : يرى أمرا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه ، فيقول الله له يوم القيامة : ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟ فيقول خشية الناس ، فيقول : إياي كنت أحق أن تخشى " .

فهذا محمول على أن المانع له من الإنكار مجرد الهيبة دون الخوف المسقط للإنكار ، فإن خاف على نفسه السيف أو السوط أو الحبس أو القيد أو النفي أو أخذ المال ونحو ذلك من الأذى ، أو خاف مثل ذلك على أهله وجيرانه سقط وجوب الإنكار ، وقد نص على ذلك الأئمة منهم مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم . قال الإمام أحمد : لا يتعرض للسلطان فإن سيفه مسلول . وقال ابن شبرمة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالجهاد يجب على الواحد أن يصابر فيه الاثنين ويحرم عليه الفرار منهما ولا يجب عليه مصابرة أكثر من ذلك . وأما مجرد خوف السب أو سماع الكلام السيئ فلا يسقط الإنكار - نص عليه الإمام أحمد ، وإن احتمل الأذى وقوي عليه فهو أفضل . نص عليه وقال : " أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " . وهذا رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعا ، وخرج ابن ماجه معناه في حديث أبي أمامة .

وفي مسند البزار عن أمين الأمة أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - قال : قلت : يا رسول الله أي الشهداء أكرم على الله ؟ قال : " رجل قام إلى إمام جائر فأمره بمعروف ونهاه عن منكر فقتله " ، وحديث : " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه " يدل على أنه علم أنه لا يطيق الأذى ولا يصبر عليه ، فلا يتعرض حينئذ للأمر والنهي ، وهذا حق وإنما الكلام فيمن علم من نفسه الصبر ، كذلك قاله الإمام أحمد وسفيان والفضيل بن عياض وغيرهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية