لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء

( ( من لازم لكل أرباب العمل تقليد حبر منهم فاسمع تخل ) )

( ( من ) ) أي الذين هم فهو مبتدأ خبره فرض ، ( ( لازم ) ) لا انفكاك عنه ولا مندوحة منه ( ( لكل ) ) واحد مكلف من ( ( أرباب ) ) أصحاب ( ( العمل ) ) الصالح والكد الناجح ، ممن ليس فيه أهلية الاجتهاد المطلق ( ( تقليد حبر منهم ) ) أي من الأئمة الأربعة المعلومة مذاهبهم ، المضبوطة أقوالهم ، المحفوظة رواياتهم ، المدونة مذاهبهم في كل مصر وعصر ، الواصلة بالتواتر بشروطها وأركانها ، وموانعها وإتقانها بحيث لا يتأتى لأحد أن ينسب لمذهب منها ما هو ليس منه ، بل آحاد طلبة العلم يرد عليه ويعيبه ، ويقول : هذا ليس في هذا المذهب ، حتى إنهم يعرفون المشهور من أقوال المذهب والمهجور ، وإن كان الدليل المأثور مع القول المهجور .

والحبر - بفتح الحاء المهملة وكسرها وسكون الموحدة - العالم المتقن ، وكان يقال لابن عباس - رضي الله عنهما - : الحبر والبحر لعلمه وسعته ، وتسمى سورة المائدة سورة الأحبار لقوله تعالى : ( يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار ) ، والتقليد لغة وضع الشيء في العنق محيطا به وذلك الشيء يسمى قلادة وجمعها قلائد ، وعرفا أخذ مذهب الغير مع اعتقاد صحته واتباعه عليه بلا معرفة دليله ، فالرجوع إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى المفتي وإلى الإجماع ، ورجوع القاضي إلى العدول ليس بتقليد ولو سمي ذلك تقليدا لساغ ، وفي المقنع المشهور أن أخذه بقول المفتي تقليد وهو أظهر ، وقدمه النجم ابن حمدان في آداب المفتي ، وقال شيخ الإسلام في المسودة : والتقليد قبول القول بغير دليل ، فليس المصير إلى الإجماع تقليدا لأن الإجماع دليل ، ولذلك يقبل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يقال تقليد بخلاف فتيا الفقيه ، وذكر في ضمن مسألة التقليد أن الرجوع إلى قول الصحابي ليس بتقليد لأنه حجة ، وقد قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث : من قلد الخبر رجوت أن يسلم إن شاء الله تعالى ، فأطلق اسم التقليد على من صار إلى الخبر وإن كان حجة في نفسه .

( تنبيه ) إنما قال : لكل أرباب العمل ليحترز به عن التقليد [ ص: 464 ] في عقائد التوحيد من معرفة الله تعالى ونعوت ذاته وصفاته والرسالة ، وكذا في أركان الإسلام الخمس ونحوها مما تواتر واشتهر ، ذكره علماؤنا ونقل الإجماع في ذلك غير واحد ، منهم أبو الخطاب الكلوذاني وأبو الوفاء بن عقيل لتساوي الناس فيما لا يسوغ فيه اجتهاد ، وتقدم الكلام عليه في آخر الباب الأول مطولا ، والله أعلم .

قال الإمام موفق الدين في الروضة : وأما التقليد في الفروع فهو جائز إجماعا ، قال : وذهب بعض القدرية إلى أن العامة يلزمهم النظر في الدليل ، واستدل لجواز التقليد بقوله تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) وهو عام لتكرره بتكرر الشرط ، وعلة الأمر بالسؤال الجهل ، وأيضا الإجماع فإن العوام يقلدون العلماء من غير إبداء مستند من غير نكير ، وأيضا عدم القول بذلك يؤدي إلى خراب الدنيا بترك المعاش والصنائع ، ولا يلزم مثله في التوحيد والرسالة لتيسره وقلته ودليل العقل والنقل ، ولذا قال الإمام مالك : يجب على العوام تقليد المجتهدين في الأحكام ، كما يجب على المجتهدين الاجتهاد في أعيان الأدلة ، خلافا للمعتزلة البغدادية فإنهم وافقوا القدرية في إيجابهم على العوام الاجتهاد ، واحتجوا بقوله تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ، ومن الاستطاعة ترك التقليد ، ولأن العامي متمكن من كثير من وجوه النظر فوجوب أن لا يجوز له تركها قياسا على المجتهد ، ولنا أن الخطأ متعين وبلوغ الصواب متعسر بل متعذر في حق العوام إذا انفردوا بمعرفة الأحكام ، لأنهم لا يعرفون الناسخ والمنسوخ ، ولا المخصص ولا المقيد ولا كثيرا مما يتوقف عليه دلالة الألفاظ ولا يضبطونه ، ولا يسوغ لهم مخالفته لفرط الغرر فيه فهم لا يستطيعون الوصول إليه .

وقد توسط أبو علي الجبائي أحد أئمة المعتزلة فقال : شعائر الإسلام الظاهرة لا تحتاج لنصب الاجتهاد ، فلا حاجة إلى التقليد فيها كالصلوات الخمس وصوم رمضان ونحو ذلك ، وأما الأمور الخفية من المجتهد فيه فيتعين التقليد فيها بالضرورة ولا نزاع في ذلك ، لأن تحصيل الحاصل محال ولا سيما التقليد إنما يفيد الظن ، وهو دون الضرورة بكثير وما لم ينته إلى حد الضرورة يتعين التقليد فيه لحاجة النظر إلى آلات مفقودة في العامي .

التالي السابق


الخدمات العلمية