صفحة جزء
فإن قيل : أفليس في الأحاديث ما يدل على الرجوع إلى ما يقع في القلب ويحيك في النفس ، وإن لم يكن ثم دليل صريح على حكم من أحكام الشرع ، ولا غير صريح ؟ فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : دع ما يريبك ، إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة .

وخرج مسلم عن النواس بن سمعان ـ رضي الله عنه ـ قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال : البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه ، وعن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رجل يا رسول الله [ ص: 657 ] ما الإيمان ؟ . . . . . . . قال : إذا حاك شيء في صدرك فدعه .

وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وعن وابصة ـ رضي الله عنه ـ قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال : يا وابصة ! استفت قلبك ، واستفت نفسك ، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك وخرج البغوي في معجمه عن عبد الرحمن بن معاوية :

أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! ما يحل لي مما يحرم علي ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرد عليه ثلاث مرات ، كل ذلك يسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : أين السائل ؟ فقال : أنا ذا يا رسول الله . فقال : ـ ونقر [ ص: 658 ] بإصبعه ـ : ما أنكر قلبك فدعه .

وعن عبد الله قال : الإثم حواز القلوب ، فما حاك من شيء في قلبك فدعه ، وكل شيء فيه نظرة فإن للشيطان فيه مطمعا ، وقال أيضا : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وعن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ : أن الخير طمأنينة ، وأن الشر ريبة ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وقال شريح : دع ما يريبك إلى لا ما يريبك ، فوالله ما وجدت فقد شيء تركته ابتغاء وجه الله .

فهذه أدلة ظهر من معناها الرجوع في جملة من الأحكام الشرعية إلى ما يقع بالقلب ويهجس بالنفس ويعرض بالخاطر ، وأنه إذا اطمأنت النفس إليه فالإقدام عليه صحيح ، وإذا توقفت أو ارتابت فالإقدام عليه محظور ، وهو عين ما وقع إنكاره من الرجوع إلى الاستحسان الذي يقع بالقلب ويميل إليه الخاطر ، وإن لم يكن ثم دليل شرعي فإنه لو كان هنالك دليل شرعي أو كان هذا التقرير مقيدا بالأدلة الشرعية لم يحل به على ما في النفوس ولا على ما يقع بالقلوب ، مع أنه عندكم عبث وغير مفيد ، كمن يحيل بالأحكام الشرعية على الأمور الوفاقية ، أو الأفعال التي لا ارتباط بينها وبين شرعية الأحكام . فدل ذلك على أن لاستحسان العقول [ ص: 659 ] وميل النفوس أثرا في شرعية الأحكام ، وهو المطلوب .

والجواب : أن هذه الأحاديث وما كان في معناها قد زعم الطبري في " تهذيب الآثار " أن جماعة من السلف قالوا بتصحيحها ، والعمل بما دل عليه ظاهرها . وأتى بالآثار المتقدمة عن عمر وابن مسعود وغيرهما ، ثم ذكر عن آخرين القول بتوهينها وتضعيفها وإحالة معانيها .

وكلامه وترتيبه بالنسبة إلى ما نحن فيه لائق أن يؤتى به على وجهه ، فأتيت به على تحري معناه دون لفظه لطوله ، فحكى عن جماعة أنهم قالوا : لا شيء من أمر الدين إلا وقد بينه الله تعالى بنص عليه أو بمعناه ، فإن كان حلالا فعلى العامل به إذا كان عالما تحليله ، أو حراما فعليه تحريمه ، أو مكروها غير حرام فعليه اعتقاد التحليل أو الترك تنزيها .

فأما العامل بحديث النفس والعارض في القلب فلا ، فإن الله حظر ذلك على نبيه فقال : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله فأمره بالحكم بما أراه الله لا بما رآه وحدثته به نفسه ، فغيره من الشرك أولى أن يكون ذلك محظورا عليه . وأما إن كان جاهلا فعليه مسألة العلماء دون ما حدثته نفسه .

ونقل عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه خطب فقال : أيها الناس ! قد سنت لكم السنن ، وفرضت لكم الفرائض ، وتركتم على الواضحة ، أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا .

[ ص: 660 ] وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : ما كان في القرآن من حلال أو حرام فهو كذلك ، وما سكت عنه فهو مما عفي عنه .

وقال مالك : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل ، فينبغي أن تتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يتبع الرأي ، فإنه متى ما اتبع الرأي جاءه رجل آخر أقوى في الرأي منه فاتبعه ، فكلما غلبه رجل اتبعه ، أرى أن هذا بعد لم يتم .

واعملوا من الآثار بما روي عن جابر ـ رضي الله عنه ـ . أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي إذا اعتصمتم به : كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض .

وروي عن عمرو بن [ شعيب عن أبيه عن جده ] ـ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وهم يجادلون في القرآن ، فخرج ووجهه أحمر كالدم فقال : يا قوم ! على هذا هلك من كان قبلكم جادلوا في القرآن وضربوا بعضه ببعض ، فما كان من حلال فاعملوا به ، وما كان من حرام فانتهوا عنه ، وما كان من متشابه فآمنوا به .

وعن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ يرفعه قال : ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فيه فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئا : وما كان ربك [ ص: 661 ] نسيا . قالوا : فهذه الأخبار وردت بالعمل بما في كتاب الله ، والإعلام بأن العامل به لن يضل ، ولم يأذن لأحد في العمل بمعنى ثالث غير ما في الكتاب والسنة ، ولو كان ثم ثالث لم يدع بيانه ، فدل على أن لا ثالث ، ومن ادعاه فهو مبطل .

قالوا : فإن قيل : فإنه عليه السلام قد سن لأمته وجها ثالثا وهو قوله : استفت قلبك وقوله : الإثم حواز القلوب إلى غير ذلك ، قلنا : لو صحت هذه الأخبار لكان ذلك إبطالا لأمره بالعمل بالكتاب والسنة إذ صحا معا ، لأن أحكام الله ورسوله لم ترد بما استحسنته النفوس واستقبحته ، وإنما كان يكون وجها ثالثا لو خرج شيء من الدين عنهما ، وليس بخارج ، فلا ثالث يجب العمل به .

فإن قيل : قد يكون قوله : استفت قلبك ونحوه أمرا لمن ليس في مسألته نص من كتاب ولا سنة ، واختلفت فيه الأمة ، فيعد وجها ثالثا . قلنا : لا يجوز ذلك لأمور :

[ ص: 662 ] أحدها : أن كل ما لا نص فيه بعينه قد نصبت على حكمه دلالة ، فلو كان فتوى القلب ونحوه دليلا لم يكن لنصب الدلالة الشرعية عليه معنى ، فيكون عبثا ، وهو باطل .

والثاني : أن الله تعالى قال : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول . فأمر المتنازعين بالرجوع إلى الله والرسول دون حديث النفوس وفتيا القلوب .

والثالث : أن الله تعالى قال : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . فأمرهم بمسألة أهل الذكر ليخبروهم بالحق فيما اختلفوا فيه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يأمرهم أن يستفتوا في ذلك أنفسهم .

والرابع : أن الله تعالى قال لنبيه احتجاجا على من أنكر وحدانيته : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت . إلى آخرها . فأمرهم بالاعتبار بعبرته ، والاستدلال بأدلته على صحة ما جاءهم به ، ولم يأمرهم أن يستفتوا فيه نفوسهم ، ويصدوا عما اطمأنت إليه قلوبهم ، وقد وضع الأعلام والأدلة ، فالواجب في كل ما وضع الله عليه الدلالة أن يستدل بأدلته على ما دلت ، دون فتوى النفوس وسكون القلوب من أهل الجهل بأحكام الله .

وهذا ما حكاه الطبري عمن تقدم ، ثم اختار إعمال تلك [ ص: 663 ] الأحاديث ، إما لأنها صحت عنده أو صح منها عنده ما تدل عليه معانيها ، كحديث :

الحلال بين والحرام بين إلى آخر الحديث ، فإنه صحيح خرجه الإمامان . ولكنه لم يعملها في كل من أبواب الفقه ، إذ لا يمكن ذلك في تشريع الأعمال وإحداث التعبدات ، فلا يقال بالنسبة إلى إحداث الأعمال : إذا اطمأنت نفسك إلى هذا العمل فهو بر ، أو : استفت قلبك في إحداث هذا العمل ، فإن اطمأنت إليه نفسك فاعمل به وإلا فلا .

وكذلك في النسبة إلى التشريع التركي ، لا يتأتى تنزيل معاني الأحاديث عليه بأن يقال : إن اطمأنت نفسك إلى ترك العمل الفلاني فاتركه ، وإلا فدعه . أي فدع الترك واعمل به . وإنما يستقيم إعمال الأحاديث المذكورة فيما أعمل فيه قوله عليه الصلاة والسلام : الحلال بين والحرام بين . الحديث .

وما كان من قبيل العادات من استعمال الماء والطعام والشراب والنكاح واللباس ، وغير ذلك مما في هذا المعنى ، فمنه ما هو بين الحلية وما هو بين التحريم ، وما فيه إشكال ، وهو الأمر المشتبه الذي لا يدرى أحلال هو أم حرام ؟ فإن ترك الإقدام أولى من الإقدام مع جهلة بحاله ، نظير قوله عليه السلام : إني لأجد التمرة ساقطة على فراشي ، فلولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها ، فهذه التمرة لا شك أنها لم تخرج من إحدى الحالين : إما من الصدقة وهي حرام عليه ، وإما من غيرها وهي حلال له ، فترك أكلها حذرا من أن تكون من الصدقة في نفس الأمر .

[ ص: 664 ] قال الطبري : فكذلك حق الله على العبد فيما اشتبه عليه مما هو في سعة من تركه والعمل به ، أو مما هو غير واجب ـ أن يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه ، إذ يزول بذلك عن نفسه الشك ، كمن يريد خطبة امرأة فتخبره امرأة أنها قد أرضعته وإياها ولا يعلم صدقها من كذبها ، فإن تركها أزال عن نفسه الريبة اللاحقة له بسبب إخبار المرأة ، وليس تزوجه إياها بواجب ، بخلاف ما لو أقدم ، فإن النفس لا تطمئن إلى حلية تلك الزوجة .

وكذلك قول عمر إنما هو فيما أشكل أمره في البيوع فلم يدر أحلال هو أم حرام ؟ ففي تركه سكون النفس وطمأنينة القلب ، كما في الإقدام شك : هل هو آثم أم لا ؟ وهو معنى قوله عليه السلام للنواس ووابصة ـ رضي الله عنهما ـ . ودل على ذلك حديث المشتبهات ، لا ما ظن أولئك من أنه أمر للجهال أن يعلموا بما رأته أنفسهم ، ويتركوا ما استقبحوه دون أن يسألوا علماءهم .

قال الطبري ، فإن قيل : إذا قال الرجل لامرأته : أنت علي حرام . فسأل العلماء فاختلفوا عليه . فقال بعضهم : قد بانت منك بالثلاث : وقال بعضهم : إنها حلال غير أن عليك كفارة يمين . وقال بعضهم : ذلك إلى نيته إن أراد الطلاق فهو طلاق . أو الظهار فهو ظهار . أو يمينا فهو يمين . وإن لم ينو شيئا فليس بشيء : أيكون هذا اختلافا في الحكم كإخبار المرأة بالرضاع فيؤمر هنا بالفراق ، كما يؤمر هناك أن لا يتزوجها خوفا من الوقوع في المحظور أو لا ؟ قيل : حكمه في مسألة العلماء أن يبحث عن أحوالهم وأمانتهم ونصيحتهم ثم يقلد الأرجح . فهذا ممكن ، والحزازة مرتفعة بهذا البحث . [ ص: 665 ] بخلاف ما إذا بحث مثلا عن أحوال المرأة فإن الحزازة لا تزول وإن أظهر البحث أن أحوالها غير حميدة ، فهما على هذا مختلفان . وقد يتفقان في الحكم إذا بحث عن العلماء فاستوت أحوالهم عنده ، لم يثبت له ترجيح لأحدهم ، فيكون العمل المأمور به من الاجتناب كالمعمول به في مسألة المخبرة بالرضاع سواء ، إذ لا فرق بينهما على هذا التقدير . انتهى معنى كلام الطبري .

وقد أثبت في مسألة اختلاف العلماء على المستفتي أنه غير مخير ، بل حكمه حكم من التبس عليه الأمر فلم يدر أحلال هو أم حرام ؟ فلا خلاص له من الشبهة إلا باتباع أفضلها والعمل بما أفتى به . وإلا فالترك . إذ لا تطمئن النفس إلا بذلك حسبما اقتضته الأدلة المتقدمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية