مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 391 ] المثال الرابع : قوله تعالى : ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) ( بل يداه مبسوطتان ) قالت الجهمية : مجاز في النعمة أو القدرة ، وهذا باطل من وجوه : أحدها : أن الأصل الحقيقة فدعوى المجاز مخالفة للأصل ، الثاني : أن ذلك خلاف الظاهر فقد اتفق الأصل والظاهر على بطلان هذه الدعوى ، الثاني : أن مدعي المجاز المعين يلزمه أمور : أحدها : إقامة الدليل الصارف عن الحقيقة ، إذ مدعيها معه الأصل والظاهر ومخالفها مخالف لهما جميعا ، ثانيها : بيان احتمال اللفظ لما ذكره من المجاز لغة وإلا كان منشئا من عنده وضعا جديدا ، ثالثها : احتمال ذلك المعنى في هذا السياق المعين ، فليس كل ما احتمله اللفظ من حيث الجملة يحتمله هذا السياق الخاص ، وهذا موضع غلط فيه من شاء الله ولم يبين أو يميز بين ما يحتمله اللفظ بأصل اللغة وإن لم يحتمله في هذا التركيب الخاص وبين ما يحتمله فيه ، رابعها : بيان القرائن الدالة على المجاز الذي عينه بأنه المراد إذ يستحيل أن يكون هذا هو المراد من غير قرينة في اللفظ تدل عليه ألبتة ، وإذا طولبوا بهذه الأمور الأربعة تبين عجزهم .

الوجه الرابع : أن اطراد لفظها في موارد الاستعمال وتنوع ذلك وتصريف استعماله يمنع المجاز ، ألا ترى إلى قوله : ( خلقت بيدي ) وقوله : ( بل يداه مبسوطتان ) وقوله : ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ) فلو كان مجازا في القدرة والنعمة لم يستعمل منه لفظ يمين ، وقوله في الحديث الصحيح : " المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين " فلا يقال هذا يد النعمة والقدرة ، وقوله : " يقبض الله سماواته بيده والأرض باليد الأخرى ثم يهزهن ثم يقول : أنا الملك " ، فهنا هز وقبض وذكر يدين ، ولما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يقبض يديه ويبسطها تحقيقا للصفة لا تشبيها لها كما قرأ : ( وكان الله سميعا بصيرا ) ووضع يديه [ ص: 392 ] على عينيه وأذنيه تحقيقا لصفة السمع والبصر ، وأنهما حقيقة لا مجازا ، وقوله : " ولما خلق الله آدم قبض بيديه قبضتين وقال : اختر ، فقال : اخترت يمين ربي ، وكلتا يديه يمين ، ففتحها فإذا فيها أهل اليمين من ذريته " .

وأضعاف أضعاف ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة في ثبوت الصفة ، كقوله في الحديث الصحيح : " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " ، وقوله في الحديث المتفق على صحته : " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، تقبلها بيمينه " ، وقوله : " وما السماوات السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في كف أحدكم " ، وقوله في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي رزين : " فيأخذ ربك غرفة من الماء فينضح بها قبلكم فلا يخطئ وجه أحدكم " ، يعني في الموقف ، فهل يمكن أن يكون هذا من أوله إلى آخره وأضعاف أضعافه مجازا لا حقيقة ، وليس معه قرينة واحدة تبطل الحقيقة وتبين المجاز .

الوجه الخامس : أن اقتران لفظ الطي والقبض والإمساك باليد يصير المجموع حقيقة ، هذا في الفعل ، وهذا في الصفة ، بخلاف اليد المجازية ، فإنها إذا أريدت لم يقترن بها ما يدل على اليد حقيقة ، بل ما يدل على المجاز كقوله : له عندي يد ، وأنا قمت يدهم ونحو ذلك ، وأما إذا قيل : قبض بيده وأمسك بيده أو قبض بإحدى يديه كذا وبالأخرى كذا ، وجلس عن يمينه ، أو كتب كذا وعمله بيمينه أو بيديه ، فهذا لا يكون إلا حقيقة ، وإنما أتي هؤلاء من جهة أنهم رأوا اليد تطلق على النعمة والقدرة في بعض المواضع ، فظنوا أن كل تركيب وسياق صالح لذلك ، فوهموا وأوهموا ، فهب أن [ ص: 393 ] هذا يصلح في قوله : لولا يد لك لم أجزك بها ، أفيصلح في قوله : ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك ) وفي قول عبد الله بن عمر : وإن الله لم يباشر بيده أو لم يخلق بيده إلا ثلاثا : خلق آدم بيده ، وغرس جنة عدن بيده ، وكتب التوراة بيده ، أفيصح في عقل أو نقل أو فطرة أن يقال : لم يخلق بقدرته أو بنعمته إلا ثلاثا .

الوجه السادس : أن مثل هذا المجاز لا يستعمل بلفظ التثنية ، ولا يستعمل إلا مفردا أو مجموعا كقولك : له عندي يد يجزيه الله بها وله عندي أياد ، وأما إذا جاء بلفظ التثنية لم يعرف استعماله قط إلا في اليد الحقيقية ، وهذه موارد الاستعمال أكبر شاهد فعليك بتتبعها .

الوجه السابع : أنه ليس من المعهود أن يطلق الله على نفسه معنى القدرة والنعمة بلفظ التثنية بل بلفظ الإفراد الشامل لجميع الحقيقة ، كقوله ( أن القوة لله جميعا ) : وكقوله : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) وقد يجمع النعم كقوله : ( وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ) وأما أن يقول : خلقتك بقدرتين أو بنعمتين ، فهذا لم يقع في كلامه ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم .

الوجه الثامن : أنه لو ثبت استعمال ذلك بلفظ التثنية لم يجز أن يكون المراد به هاهنا القدرة ، فإنه يبطل فائدة تخصيص آدم ، فإنه وجميع المخلوقات حتى إبليس مخلوق بقدرته سبحانه ، فأي مزية لآدم على إبليس في قوله : ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) يوضحه :

الوجه التاسع : أن الله جعل ذلك خاصة خص بها آدم دون غيره ، ولهذا قال له موسى وقت المحاجة : أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك [ ص: 394 ] ملائكته وعلمك أسماء كل شيء ، وكذلك يقول له أهل الموقف إذا سألوه الشفاعة ، فهذه أربع خصائص له ، فلو كان المراد باليد القدرة لكان بمنزلة أن يقال له : خلقك الله بقدرته ، فأي فائدة في ذلك ، يوضحه :

الوجه العاشر : أنك لو وضعت الحقيقة التي يدعي هؤلاء أن اليد مجاز فيها موضع اليد لم يكن في الكلام فائدة ولم يصح وضعها هناك ، فإنه سبحانه لو قال : ما منعك أن تسجد لما خلقت بقدرتي ، وقال له موسى : أنت أو البشر الذي خلقك الله بقدرته ، وقالت له أهل الموقف ذلك ، لم يحسن ذلك الكلام ولم يكن فيه من الفائدة شيء وتعالى الله أن ينسب إليه مثل ذلك ، فإن مثل هذا التخصيص إنما خرج مخرج الفضل له على غيره وإن ذلك أمر اختص به لم يشاركه فيه غيره ، فلا يجوز حمل الكلام على ما يبطل ذلك .

الوجه الحادي عشر : أن نفس هذا التركيب المذكور في قوله : ( خلقت بيدي ) يأبى حمل الكلام على القدرة لأنه نسب الخلق إلى نفسه سبحانه ثم عدى الفعل إلى اليد ثم ثناها ثم أدخل عليها الباء التي تدخل على قوله : كتبت بالقلم ، ومثل هذا النص صريح لا يحتمل المجاز بوجه ، بخلاف ما لو قال : عملت ، كما قال تعالى : ( فبما كسبت أيديكم ) ( بما قدمت يداك ) فإن نسب الفعل إلى اليد ابتداء ، وخصها بالذكر لأنها آلة الفعل في الغالب ، ولهذا لما لم يكن خلق الأنعام مساويا لخلق أبي الأنام قال تعالى : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما ) فأضاف الفعل إلى الأيدي وجمعها ولم يدخل عليها الباء ، فهذه ثلاثة فروق تبطل إلحاق أحد الموضعين بالآخر ، ويتضمن التسوية بينهما عدم مزية أبينا آدم على الأنعام ، وهذا من أبطل الباطل وأعظم العقوق للأب ، إذ ساوى المعطل بينه وبين إبليس والأنعام في الخلق باليدين .

الوجه الثاني عشر : أن يد النعمة والقدرة لا يتجاوز بها لفظ اليد فلا يتصرف فيها بما يتصرف في اليد الحقيقية ، فلا يقال : كف لا للنعمة ولا للقدرة ، ولا إصبع وإصبعان ولا يمين ولا شمال ، وهذا كله ينفي أن يكون اليد نعمة أو يد قدرة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : يد الله ملأى لا يغيضها نفقة وقال : [ ص: 395 ] " المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن " ، وفي حديث الشفاعة : " فأقوم عن يمين الرحمن مقاما لا يقومه غيري " وإذا ضممت قوله تعالى : ( والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ) إلى قوله صلى الله عليه وسلم " يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيده ثم يهزهن " وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض يده ويبسطها .

وفي صحيح مسلم يحكى عن ربه بهذا اللفظ وقال : " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه " ، ولفظة " بين " لا تقتضي المخالطة ولا المماسة والملاصقة لغة ولا عقلا ولا عرفا ، قال تعالى : ( والسحاب المسخر بين السماء والأرض ) وهو لا يلاصق السماء ولا الأرض ، وقال في حديث الشفاعة : " وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف ، فقال أبو بكر : زدنا يا رسول الله ، قال وثلاث حثيات من حثيات ربي ، فقال عمر ، حسبك يا أبا بكر ، فقال أبو بكر ، دعني يا عمر ، وما عليك أن يدخلنا الجنة كلنا ، فقال عمر : إن شاء الله أدخل خلقه الجنة بكف واحدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق عمر " ، فصدقه في إثبات الكف لله وسعتها وعظمتها .

فهذا القبض والبسط والطي واليمين والأخذ والوقوف عن يمين الرحمن والكف وتقليب القلوب بأصابعه ووضع السماوات على إصبع والجبال على إصبع ، فذكر إحدى اليدين ، ثم قوله وبيده الأخرى ممتنع فيه اليد المجازية سواء كانت بمعنى القدرة أو بمعنى النعمة ، فإنها لا يتصرف فيها هذا التصرف ، هذه لغة العرب ، نظمهم ونثرهم ، هل تجدون فيها ذلك أصلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية