مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

وكذلك قوله في الحديث الذي رواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم " ، وهو ما يحتج به [ ص: 246 ] الجبرية ، وأسعد الناس به أهل السنة الذين قابلوه بالتصديق وتلقوه بالقبول ، وعلموا من عظمة الله وجلاله وقدر نعمه على خلقه عدم قيام الخلق بحقوق نعمه عليهم ، إما عجزا وإما جهلا وإما تفريطا وإما إضاعة وإما تقصيرا في المقدور من الشكر ، ولو من بعض الوجوه ، فإن حقه على أهل السماوات والأرض أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وتكون قوة القلب كلها ، وقوة الإنابة والتوكل ، والخشية والمراقبة والخوف والرجاء ، جميعها متوجهة إليه ومتعلقة به ، بحيث يكون القلب عاكفا على محبته وتألهه ، بل على إفراده بذلك اللسان محبوسا على ذكره ، والجوارح وقفا على طاعته ، قد استسلمت له القلوب أتم استسلام ، وذلت له أكمل ذل ، وخضعت له أعظم خضوع ، وقد فنيت بمراده ومحابه عن مرادها ومحابها ، فلم يكن لها مراد محبوب غير مراده ومحبوبه البتة .

ولا ريب أن هذا مقدور في الجملة ، ولكن النفوس تشح به ، وهي في الشح على مراتب لا يحصيها إلا الله تعالى ، وأكثر المطيعين يشح به من وجه كان أتى به من وجه ، ولعل ما لا تسمح به نفسه أكثر مما تسمح به مع فضل زهده وعبادته وعلمه وورعه ، فأين الذي لا يقع منه إرادة تزاحم إرادة الله وما يحبه منه ، فلا يعثر به غفلة واسترسال مع حكم الطبيعة والميل إلى داعيها ، وتقصير في حق الله تعالى معرفة ومراعاة وقياما به ؟ ومن الذي ينظر في كل نعمة من النعم دقيقها وجليلها إلى أنها منة ربه وفضله وإحسانه ، فيذكره بها ويحبه عليها ، ويشكره عليها ، ويستعين بها على طاعته ، ويعترف مع ذلك بقصوره وتقصيره ، وأن حق الله تعالى عليه أعظم مما أتى به ، ومن الذي يوفي حقا واحدا من الحقوق وعبودية واحدة حقها من الإجلال والتعظيم والنصح لله تعالى فيها ، وبذل الجهد في وقوعها على ما ينبغي لوجهه الكريم مما يدخله على قدره العبد ظاهرا وباطنا ؟ ومع هذا فيراها محض منة الله عليه وفضله عليه ، وأن ربه هو المستحق عليها الحمد ، وأنه لا وسيلة توسل بها إلى ربه حتى نالها ، وأنه يقابلها بما تستحق أن تقابل به من كمال الذل والخضوع ، والمحبة والبراءة من حوله وقوته ، ويمحو نفسه من البين ، وأن يكون فيها بالله لا بنفسه ولله لا لنفسه ؟ ومن الذي لم يصدر منه خلاف ما خلق له ، ولو في وقت من الأوقات ، من حركة نفسه وجوارحه ، أو يترك بعض ما خلق له ، أو يؤثر بعض حظوظه ومراده على مراد الله ومرضاته ويزاحمه به ؟

[ ص: 247 ] ومن المعلوم عقلا وشرعا وفطرة أن الله تعالى يستحق على عبده غاية التعظيم والإجلال والعبودية التي تصل إليها قدرته ، وكل ما ينافي التعظيم والإجلال يستحق عليه من العقوبة ما يناسبه ، والشرك والمعصية والغفلة واتباع الهوى وترك بذل الجهد والنصيحة في القيام بحق الله باطنا وظاهرا ، وتعلق القلب بغيره ، والتفاته إلى ما سواه ، ومنازعة ما هو من خصائص ربوبيته ، ورؤية النفس والمشاركة في الحول والقوة ، ورؤية الملة في شيء من الأشياء فلا ينسلخ منها بالكلية ، كل ذلك ينافي التعظيم والإجلال ، فلو وضع سبحانه العدل على العباد لعذبهم بعدله فيهم ولم يكن ظالما ، وغاية ما يقدر توبة العبد من ذلك واعترافه به ، وقبول التوبة محض فضله وإحسانه ، وإلا فلو عذب عبده على جنايته لم يكن ظالما ولو قدر أنه تاب منها ، لكن أوجب على نفسه بمقتضى فضله ورحمته ألا يعذب من تاب من ذنبه واعترف به رحمة وإحسانا ، وقد كتب سبحانه على نفسه الرحمة ، فلا يسع الخالق إلا رحمته وعفوه ، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار أو يدخل به الجنة ، كما قال أطوع الخلق لربه ، وأفضلهم عملا وأشدهم تعظيما له : " لن ينجي أحدا منكم عمله " قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " .

وكان صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق استغفارا ، وكانوا يعدون عليه في المجلس الواحد مائة مرة : " رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم " ، وكان يقول : " يا أيها الناس توبوا إلى ربكم ، فوالله إني لأتوب إليه وفي لفظ إني لأستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة " ، وكان إذا سلم في صلاته استغفر ثلاثا ، وكان يقول بين السجدتين : " رب اغفر لي " ، وكان يقول في سجوده : " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي جدي وهزلي ، [ ص: 248 ] وخطئي وعمدي ، وكل ذلك عندي ، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت " .

وكان يستغفر في استفتاح الصلاة وفي خاتمة الصلاة ، وعلم أفضل الأمة أن يستغفر في صلاته ويعترف على نفسه بظلم كثير ، وقد قال تعالى : ( واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) ، وقال : ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) فأهل السماوات والأرض محتاجون إلى مغفرته كما هم محتاجون إلى رحمته ، ومن ظن أنه يستغني عن مغفرة الله فهو كمن ظن أنه مستغن عن رحمته فلا يستغني أحد عن مغفرته ورحمته ، كما لا يستغني عن نعمته ومنته ، فلو أمسك عنهم فضله ومنته ورحمته لهلكوا وعذبوا ، ولم يكن ظالما ، وحينئذ فتصيبهم النقمات بإمساك فضله ، وكل نقمة منه عدل .

ومما يوضح هذا أن الظلم يقدس عنه ، أن يعاقبهم بما لم يعلموا ويمنعهم ثواب ما يستحقون ثوابه ، وهو سبحانه لا يعذب إلا بسبب كما إذا أراد تعذيب الأطفال والمجانين ومن لم تقم عليه حجته في الدنيا امتحنهم في الآخرة ، فعذب من عصاه منهم بأسباب أظهرها بالامتحان كما أظهر امتحان إبليس سبب عقوبته ، فلو أراد تعذيب أهل سماواته وأرضه كلهم لامتحنهم امتحانا يظهر أسباب تعذيبهم فيكون عدلا منه ، فإنه يعلم من العبد ما لا يعلمه العبد من نفسه .

قال الحسن البصري : لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ، ما وجدوا عليه سبيلا ، ومما يوضح ذلك أن مذهب أهل السنة أن الأنبياء والمرسلين أفضل من الملائكة ، وقد طلبوا كلهم منه المغفرة والرحمة ، فقال أول الأنبياء وأبو البشر : ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) فهو صلى الله عليه وسلم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته ، وأسكنه جنته وعلمه أسماء كل شيء ، وإنما انتفع في المحنة باعترافه وإقراره على نفسه بالظلم وسؤاله المغفرة والرحمة ، وهذا نوح [ ص: 249 ] أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض يسأله المغفرة ويقول : ( وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) ، وهذا يونس يقول : ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) ، وإبراهيم الخليل يقول : ( والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) ويقول : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ) الآية ، وكليم الرحمن موسى يقول : ( رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ) ويقول : ( أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ) ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، أفضلهم وأكملهم ، وقد تقدم بعض ما كان يستغفر ربه ، وسأله الصديق أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته فقال : " قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم " ، وإذا كان هذا حال الصديق الذي هو أفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين ، وأفضل من الملائكة عند أهل السنة وهو يخبر بما هو صادق فيه من ظلم نفسه ظلما كثيرا ، فما الظن بسواه ؟ بل إنما صار صديقا بتوفيته هذا المقام حقه الذي يتضمن معرفة ربه وحقه وعظمته وجلاله ، وما ينبغي له وما يستحقه على عبده ، ومعرفة تقصيره في ذلك ، وأنه لم يقم به كما ينبغي ، فأقر على نفسه إقرارا هو صادق فيه أنه ظلم نفسه ظلما كثيرا وسأل ربه أن يغفر له ويرحمه .

سحقا وبعدا لمن زعم أن المخلوق يستغني عن مغفرة ربه ولا يكون به حاجة إليها ، وليس وراء هذا الجهل بالله وعظمته وحقه غاية .

التالي السابق


الخدمات العلمية