صفحة جزء
( باب ما جاء في شيب رسول الله ) .

وفي نسخة " النبي " . ( صلى الله عليه وسلم ) : الشيب والشيبة مصدران ومعناه كون الشعر أبيض ، كذا في التاج ، وأردف باب الشعر بباب الشيب لأنه من عوارضه .

( حدثنا محمد بن بشار أخبرنا أبو داود ) : أي الطيالسي لأنه سمع همام بن يحيى دون المصاحفي وكأنه أشار بترك وصفه بالمصاحفي أنه لم يقصد المصاحفي ، واسمه سليمان بن داود ، ثقة ، حافظ ، غلط في أحاديث ، روى عنه البخاري في التاريخ والترمذي في الشمائل . ( أخبرنا ) : وفي نسخة " حدثنا " . ( همام ) : بتشديد الميم ، أي ابن يحيى ، به يتميز عن همام بن منبه ، والأول ثقة ، ربما وهم ، أخرج حديثه الأئمة الستة . ( عن قتادة ) : تابعي ، مشهور . ( قال : قلت لأنس بن مالك : هل خضب ) : بفتح الضاد المعجمة ، أي هل صبغ . ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : أي شعره . ( قال : لم يبلغ ) : أي شعره . ( ذلك ) : أي محل الخضاب كذا قيل ، والأصح أن الضمير المستكن في " لم يبلغ " راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمشار إليه بذلك هو الخضاب الذي هو مستفاد من خضب ، ويؤيده ما وقع عند مسلم من رواية محمد بن سيرين ، قال : سألت أنس بن مالك : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خضب ؟ فقال : لم يبلغ الخضاب . أي حده ، وكأنه أشار باسم الإشارة إلى بعد وقت الخطاب ، ويجوز أن يكون الضمير المستكن راجعا إلى الشيب المذكور حكما بقرينة خضب ، أي ما بلغ شيبه ذلك أي مبلغا يحتاج إلى الخضاب ، ويؤيده قوله : ( إنما كان ) : أي شيبه . ( شيئا ) : أي قليلا ، وفي نسخة " شيبا " ، أي بياضا يسيرا ، واقتصر عليه ميرك ، وقال ابن حجر : التقدير إنما كان يخضب شيبا . وفيه أنه مع كونه مخالفا لسائر رواياته الصريحة بنفي الخضاب ما يناسب عنوان الباب ، والله أعلم بالصواب . ( في صدغيه ) : بضم فسكون لمهملتين أي كائنا فيه ، وهو ما بين العين والأذن ، ويسمى الشعر النابت عليه صدغا أيضا وهو المراد هنا ، أو هو من باب إطلاق المحل وإردة الحال ، وربما قالوا السدغ بالسين ، قيل : وقع في رواية البخاري بلفظ " إنما كان شيء " بالرفع أي شيء من الشيب ، واعلم أن الحصر أو التأكيد المستفاد من " إنما " على خلاف " فيه " ينافي ما سيأتي أنه ما عد في رأسه ولحيته صلى الله [ ص: 109 ] عليه وسلم إلا أربع عشرة شعرة بيضاء ، اللهم إلا أن يقال : الحصر هنا بالقياس إلى ما في اللحية ، قال العصام : ويعلم منه قلة شيب الرأس أيضا ; لأنه أول ما يبدو الشيب في الصدغين . وقال شارح : المراد حصر شيب يكون وهو في اللحية . قال العصام : وفيه أنه ينافي ما سيأتي في حديث " وبرأسه ردغ " ، انتهى . ويمكن دفعه بأن وضع الردغ على الرأس إنما كان لمنفعة أخرى غير الخضاب ، هذا وقد جاء في صحيح البخاري من أن الشعر الأبيض كان في عنفقته وهي ما بين الذقن والشفة السفلى ، قال العسقلاني : وجه الجمع ما وقع عند مسلم عن أنس قال : لم يخضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان البياض في عنفقته وفي الصدغين وفي الرأس نبذ . بضم ففتح أو بفتح فسكون ، أي شعرات متفرقة ، وعرف من مجموع ذلك أن الذي شاب من عنفقته أكثر مما شاب من غيرها ، ومراد أنس أنه لم يكن في شعره ما يحتاج إلى الخضاب ، وقد صرح بذلك في رواية محمد بن سيرين قال : سألت أنس بن مالك : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خضب ؟ قال : لم يبلغ الخضاب . ولمسلم من طريق حماد عن ثابت عن أنس : لو شئت أن أعد شمطات كن في رأسه لفعلت . زاد ابن سعد والحاكم " ما شأنه بالشيب " ، ولمسلم من حديث جابر بن سمرة : قد شمط مقدم رأسه ولحيته ، وكان إذا دهن لم يتبين ، فإن لم يدهن تبين ، انتهى كلامه . وقال ميرك : لم يظهر لي وجه الجمع بما ذكر فليتأمل فيه ، أقول : والذي يظهر لي أن مراده ، والله أعلم ، أن هذا الحديث مقتطع من حديث طويل لأنس فالجمع باعتبار المجموع ، ثم كلام العسقلاني متضمن للجواب عن إشكال آخر ، وهو أنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم خضب - كما سيأتي في باب الخضاب - فأشار إلى دفعه بأن مراد أنس أنه لم يكن في شعره ما يحتاج إلى الخضاب ، وهو لا ينافي الخضاب ، وبه اندفع قول ابن حجر ، وقوله " لم يخضب " إنما قاله بحسب علمه لأن نفي علمه وهو الخادم الملازم له صلى الله عليه وسلم بعيد جدا كما لا يخفى ، قيل : ثبت عن ابن عمر في الصحيحين أنه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة . وأجيب بأنه يحتمل أنه صبغ تلك الشعرات القليلة في حين من الأوقات وتركه في معظم الأوقات ، فأخبر كل بما رأى ، وكلاهما صادق ، ويمكن أن يقال : من نفى الصبغ أراد نفيه بصفة الدوام والأغلبية ، ومن أثبته أراد إثباته بطريق الندرة ، فلا منافاة ، قيل : ويحتمل أن المثبت يريد أنه صلى الله عليه وسلم صبغ الثوب ، ورد بأنه ثبت عن ابن عمر أنه كان يصفر لحيته . ( ولكن أبو بكر رضي الله عنه ) : وجه الاستدراك مادة مناسبته له صلى الله عليه وسلم وقربه منه سنا . ( خضب بالحناء ) : بكسر المهملة وتشديد نون ، وبالمد ، معروف . ( والكتم ) : بفتحتين والتاء مخففة ، كذا في النسخ المصححة ، ففي النهاية قال أبو عبيد : الكتم بتشديد التاء والمشهور التخفيف ، واختلفوا في تفسيره ففي بعض كتب اللغة : هو ورق يشبه ورق الآس ، يصبغ به . وفي المهذب : هو الوسمة . وفي الصحاح : الكتم نبت يخلط مع الوسمة للخضاب ، والمكتومة دهن للعرب أحمر ، ويجعل فيه الزعفران أو الكتم . وفي الفائق : هو نبت يخلط مع الوسمة للخضاب الأسود . وفي النهاية : يشبه أن يكون معنى الحديث أنه صبغ بكل منهما منفردا عن الآخر فإن الخضاب [ ص: 110 ] بهما يجعل الشعر أسود ، وقد صح النهي عن السواد ، ولعل الحديث بالحناء أو الكتم بأو على التخيير ، ولكن الروايات على اختلافها بالواو ، انتهى . ويمكن أن يكون التقدير خضب بالحناء تارة وبالكتم أخرى ، على أن الواو قد تجيء بمعنى أو كما قيل في قولهم : الكلمة اسم وفعل وحرف ، وقال الشاطبي رحمه الله في باب البسملة : وصل واستكن . وقد قال شارحو كلامه : أن المراد بالواو التخيير . وقال العسقلاني : الكتم الصرف يوجب سوادا مائلا إلى الحمرة ، والحناء توجب الحمرة فاستعمالهما يوجب ما بين السواد والحمرة ، انتهى . فالواو على أصله لمطلق الجمع ، ويؤيده ما في المغرب ، وعن الأزهري : أن الكتم نبت فيه حمرة ، ومنه حديث أبي بكر " كان يخضب بالحناء والكتم ولحيته كأنها ضرام عرفج " ، انتهى . والضرام دقاق الحطب الذي يسرع اشتعال النار فيه ، والعرفج نبت في السهل ، كذا في الصحاح ، وقال الجزري : وقد جرب الحناء والكتم جميعا فلم يسود بل يغير صفرة الحناء وحمرته إلى الخضرة ونحوها فقط من غير أن يبلغ السواد ، وكذا رأيناه وشاهدناه ، هذا وقد قال ميرك : الحديث هكذا في رواية قتادة ووافقه ابن سيرين عند مسلم من طريق عاصم الأحول عنه بذكر أبي بكر فقط ، ولفظه : قلت له : أكان أبو بكر يخضب ؟ فقال : نعم ، بالحناء والكتم ، وأخرج أحمد من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين بلفظ : " ولكن أبا بكر وعمر خضبا بالحناء والكتم " ، وأظن أن ذكر عمر فيه وهم ; لما في مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بلفظ : " وقد اختضب أبو بكر بالحناء والكتم واختضب عمر بالحناء بحتا " ، أي صرفا . قال العسقلاني : وهذا يشعر بأن أبا بكر كان يجمع بينهما دائما ، انتهى . وفيه نظر إذ الدوام غير مفهوم من الكلام ، قال الحنفي : ينبغي أن يعلم أن هذا الحديث أنسب بالباب الذي يجيء بعده ، انتهى . وفيه أنه لما كان الخضاب منفيا والشيب مثبتا في هذا الحديث ناسب ذكره في هذا الباب ; لأن موضوع ذلك الباب إنما هو ثبوت الخضاب ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية