صفحة جزء
( باب ما جاء في رؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام )

وفي نسخة رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمراد بالمنام النوم واختلف في أن [ ص: 290 ] الرؤية والرؤيا متحدتان أو مختلفتان ذكره ابن حجر ، والأظهر أن الأولى أعم ، ولهذا قيدها بالمنام ، والله أعلم ، قال صاحب الكشاف : الرؤيا بمعنى الرؤية إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة فلا جرم فرق بينهما بحرف التأنيث كما قيل في القربى والقربة وجعل ألف التأنيث فيها مكان تاء التأنيث للفرق بينهما .

وقال الواحدي : الرؤيا مصدر كالبشرى والسقيا والشورى إلا أنه لما صار اسما لهذا المتخيل في المنام جرى مجرى الأسماء ، وقال النووي : الرؤيا مقصورة مهموزة ، ويجوز ترك همزها تخفيفا .

قلت : وكذا الرؤية والقراءتان في السبعة .

ثم الرؤيا على ما حققه البيضاوي في تفسيره أنها انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك ، والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من المناسبة عند فراغها عن تدبير البدن أدنى فراغ فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك .

ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة ، ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجت إليه .

وقال المازري مذهب أهل السنة أن حقيقة الرؤيا خلق الله تعالى في قلب النائم اعتقادات خلقها في قلب اليقظان ، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة ، وخلق هذه الاعتقادات في النائم علم على أمور أخر يلحقها في ثاني الحال كالغيم علما على المطر .

ثم اعلم أن الرؤيا على ثلاث مراتب ما يريه الملك الموكل على الرؤيا فذلك حق وما يريه ويمثله الشيطان وما يحدث به المرء نفسه ، وقد وكل بالرؤيا ملك يضرب من الحكمة الأمثال وقد اطلع على قصص بني آدم من اللوح المحفوظ فإذا نام يمثل له الملك الأشياء على طريق الحكمة ما يكون له بشارة ونذارة ومعاتبة كذا في شرح المشارق .

وقال صاحب المواقف أما الرؤيا فخيال باطل عند المتكلمين أما عند المعتزلة فلفقد شرائط الإدراك ، وأما عند الأصحاب إذ لم يشترطوا شيئا من ذلك فلأنه خلاف العادة قال ميرك : ولا يخفى أنه خلاف ما في الحديث بل وما في القرآن وأجيب بأن ذلك معجزة أو كرامة على خلاف العادة أو أن الرؤيا الحسية خيال ، والله أعلم بحقيقة الحال .

قلت : وقد حكى المازري عن الباقلاني أن حديث رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - على ظاهره ، والمراد : أن من رآه فقد أدركه ، ولا مانع يمنع من ذلك والعقل لا يخيله حتى يضطر إلى صرفه عن ظاهره ، وأما أنه قد يرى على خلاف صفته أو في مكانين فإن ذلك غلط في صفاته - صلى الله عليه وسلم - ويخيل لهما على خلاف ما هي عليه ، وقد يرى الظان بعض الخيالات مرئيا لكون ما يتخيل مرتبطا بما يرى في منامه فيكون ذاته - صلى الله عليه وسلم - مرئية وصفاته - صلى الله عليه وسلم - متخيلة غير مرئية والإدراك لا يشترط فيه تحديق الأبصار ، ولا قرب المسافة ، ولا كون المرئي مدفونا في الأرض ، ولا ظاهرا عليها ، وإنما يشترط كونه موجودا ولم يقم دليل على فناء جسمه - صلى الله عليه وسلم - بل جاء في الحديث ما يقتضي بقاءه - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 291 ] وسيجيء زيادة تحقيق لذلك ، والله أعلم .

وقال ميرك : اعلم أن إيراد باب الرؤية في آخر الكتاب بعد إتمام صفاته الظاهرية وأخلاقه المعنوية إشارة إلى أنه ينبغي أولا ملاحظة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأوصافه الشريفة الخاصة به ليسهل تطبيقه بعد الرؤية في المنام عليها .

قلت أو للإشعار بأن الاطلاع على طلائع صفاته الصورية وعلى بدائع نعوته السرية بمنزلة رؤيته حيا في اليقظة فلما فرغ من بيان تلك الحالة الجلية بين ما يتعلق بالرؤيا المنامية ( حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله ) أي : ابن مسعود كما في نسخة ( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من رآني في المنام فقد رآني ) أي : حقا أو حقيقة أو يقظة وسيأتي تحقيق ذلك كله ( فإن الشيطان لا يتمثل بي ) قال السيوطي في الجامع الصغير رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أنس ، وروى أحمد والشيخان عن أبي قتادة بلفظ من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتراءى بي .

واستشكل في الحديث الأول بأن الشرط والجزاء متحدان فما الفائدة فيه ؟ .

وأجيب بأن اتحادهما دال على التناهي في المبالغة كما يقال : من أدرك الضمان فقد أدرك المرعى أي : أدرك مرعى متناهيا في بابه أي : من رآني فقد رأى حقيقتي على كمالها لا شبهة ولا ارتياب فيما رأى ، كذا ذكره ميرك وزاد الحنفي بقوله ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - فقد رأى الحق والحق هنا مصدر مؤكد أي : من رآني فقد رآني رؤية الحق ، وقوله فإن الشيطان كالتتميم للمعنى والتعليل للحكم ، والتمثل يتعدى بالباء وبنفسه وباللام انتهى .

ولا يخفى أن خلاصة الجواب والتحقيق في تقرير الصواب أن الإشكال إنما يزول بتقدير المضاف أي : من رآني فقد رأى حقيقة صورتي الظاهرة وسيرتي الباهرة فإن الشيطان لا يتمثل بي أي : لا يستطيع أن يتصور بشكلي الصوري وإلا فهو بعيد عن التمثل المعنوي .

ثم اعلم أن الله سبحانه وتعالى كما حفظ نبيه - صلى الله عليه وسلم - حال اليقظة من تمكن الشيطان منه وإيصال الوسوسة فكذلك حفظه الله بعد خروجه من دار التكليف فإنه لا يقدر أن يتمثل بصورته وأن يتخيل للرائي بما ليس هو فرؤية الشخص في المنام إياه - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة رؤيته في اليقظة في أنه رؤية حقيقية لا رؤية شخص آخر ؛ لأن الشيطان لا يقدر أن يتمثل بصورته - صلى الله عليه وسلم - ويتشكل بها ، ولا أن يتشكل بصورته ويتخيل إلى الرائي أنها صورته - صلى الله عليه وسلم - فلا احتياج لمن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام بأي صورة كانت أن يعبر هذا ويظن أنه شيئ آخر ، وإن رآه بغير صورته في حياته - صلى الله عليه وسلم - على ما ذكر ميرك .

وقال صاحب الأزهار فإن قيل قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - خلق كثير في حالة واحدة على وجوه مختلفة قلنا هذه الاختلافات ترجع إلى اختلاف حال الرائين لا إلى المرئي كما في المرآة فمن رآه متبسما مثلا يدل عليه أنه يستن بسنته - صلى الله عليه وسلم - ورؤيته غضبان على خلاف ذلك ومن رآه ناقصا يدل [ ص: 292 ] على نقصان سنته فإنه يرى الناظر الطائر من وراء الزجاج الأخضر ذا خضرة وقس على هذا انتهى .

وهو في غاية التحقيق ونهاية التدقيق إلا أنه قد ترجع إلى محل المرئي كما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - رئي في قطعة من مسجد كأنه ميت فعبره بعض العارفين بأن دخول تلك البقعة في المسجد ليس على طريق السنة ففتش عنها فوجدت أنها كانت مغصوبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية