صفحة جزء
( حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ) : أي السختياني ، نسبة إلى بيع السختيان أي الجلود أو عملها . ( عن محمد بن سيرين ) : بكسر السين بعدها ياء ساكنة وبفتح النون على ضبط في النسخ المصححة ، قال العصام : الظاهر أن سيرين كغسلين ، وأنه مصرف لأنه ليس فيه إلا العلمية لكن قيد في بعض الأصول بالفتحة ، ووجهه غير ظاهر إذ العجمة فيه غير ظاهرة ; لأنه من بلاد العرب ، قلت بوجه بما قال الجعبري [ ص: 153 ] نقلا عن بعض النحاة أن مطلق المزيدتين كغلبون ونحوه علة لمنع الصرف مع أنه من الموالي لا من العرب ، فلا بدع أن يكون فيه العجمة مع احتمال أن سيرين أمه فيكون فيه علتان التأنيث والعلمية ، والله سبحانه أعلم . ثم هو تابعي جليل ، مشهور ، إمام في علم التعبير وغيره ، أخرج حديثه الأئمة الستة ، وهو من موالي أنس كاتبه على عشرين ألفا فأداها وعتق ، وكان له أولاد ستة كلهم نجباء محدثون وهم : محمد ومعبد وأنيس ويحيى وحفصة وكريمة ، ومن نوادر الأسانيد : روى محمد ، عن يحيى ، عن أنيس ، حيث وقع في الإسناد ثلاثة أخوة . ( قال : كنا عند أبي هريرة رضي الله عنه وعليه ثوبان ) : أي إزار ورداء أو ثوبان آخران . ( ممشقان ) : بفتح الشين المعجمة المثقلة ، أي مصبوغان بالمشق بكسر فسكون ، وهو الطين الأحمر ، قاله العسقلاني ، وقيل هو المغرة بكسر الميم ، قيل فيه مخالفة لحديث النهي عن لبس الثوب الأحمر . قال ابن حجر : ومر ما يدفع ذلك ، وأن النهي للتنزيه لا للتحريم فلا إشكال ، انتهى . والأظهر أن يقال : إن النهي عن الحمرة معلل بأنه من زينة الشيطان ، والمصبوغ بالطين الأحمر ليس له ذلك الشأن . ( من كتان ) : بتشديد الفوقية ، بيان لثوبان ، والجملة حال عن أبي هريرة . ( فتمخط ) : أي استنثر وطهر أنفه . ( في أحدهما ) : ومنه المخاط ما يسيل من الأنف . ( فقال ) : أي أبو هريرة . ( بخ بخ ) : بفتح الموحدة وسكون المعجمة ، وفي نسخة بكسرها منونة ، وفي نسخة بتشديدها منونة ، في النهاية : هي كلمة تقال عند الفرح والرضاء بالشيء وتكرر للمبالغة ، وهي مبنية على السكون فإن وصلت خفضت ونونت وربما شددت ، قال القاضي عياض : وروي بالرفع ، وإذا كررت فالاختيار تحريك الأول وإسكان الثاني . يعني إما رجوعا إلى الأصل أو مرعاة للوقف . قال ابن دريد : معناه تفخيم الأمر وتعظيمه ، وسكنت الخاء كسكون اللام في بل وهل ، من قال " بخ " بكسره منونا فقد شبهه بالأصوات كصه ومه . قال ابن السكيت : بخ بخ وبه وبه . قال النووي : قال أهل اللغة : يقال بخ بإسكان الخاء وبتنوينها مكسورة ، وحكى القاضي الكسر بلا تنوين ، وحكى : الأحمر التشديد فيه . وقال العسقلاني : فيها لغات : إسكان الخاء وكسرها تنوينا وبغير تنوين الأولى وتسكين الثانية ، ومعناها تفخيم الأمر والإعجاب به والمدح له . أقول : الظاهر أن المراد بها هنا التعجب والاستغراب لقوله : ( يتمخط أبو هريرة في الكتان ) : قال العصام : استئناف أجيب به عنه السؤال عن جهة التعجب ، انتهى . والظاهر أن همزة الاستفهام مقدرة في الكلام ، والعجب من ابن حجر حيث قال : وقد يستعمل بخ للإنكار ، وفي صحته هنا نظر ، انتهى . إذ صحة الإنكار أمر ظاهر ثم بين وجه التعجب بقوله : ( لقد ) : واللام في جواب قسم مقدر أي والله لقد ( رأيتني ) : وإنما اتصل الضميران وهما لواحد حملا لرأى البصرية على القلبية فإن كون الفاعل والمفعول ضميرين ومتصلين من خصائص أفعال القلوب ، أي علمتني لا رأيت نفسي ، وبتقريرنا تبين أن الجملة القسمية بيانية واستئنافية ، وهو أظهر من قول ابن حجر تبعا للعصام أن اللام للقسم والجملة حال بتقدير القصة ليتحد زمان الحال وعامله . ( وإني ) : الجملة حال من مفعول رأيت . ( لأخر ) : بصيغة المتكلم المفرد من حد ضرب مشتق من الخرور [ ص: 154 ] أي أسقط على الأرض كهيئة الساجد . ( فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجرة عائشة رضي الله عنها ) : إشارة إلى موضع الأحباب الأصحاب من غير خفاء واحتجاج . ( مغشيا علي ) : أي من غلبة الجوع ، وهو حال من فاعل " أخر " أي مستوليا علي الغشي . ( فيجيء الجائي ) : أي الواحد من هذا الجنس . ( فيضع رجله ) : أي قدمه . ( على عنقي ) : ليسكن اضطرابي وقلقي ، أخبر عن الأمور الماضية بصيغة المضارع ، أعني : أخر ويجيء ويضع ; استحضارا للصور الواقعة . ( يرى ) : بلفظ المضارع المجهول ، وهو استئناف بيان أو حال أي يظن الجائي . ( أن بي جنونا ) : أي نوعا من الجنون وهو الصرع . ( وما بي جنون ) : أي والحال أن ليس بي مرض الجنون . ( وما هو ) : أي ما هو بي ويعني ما الذي بي . ( إلا الجوع ) : أي أثره واستيلاؤه علي ، وعند ابن سعد من طريق الوليد بن رباح عنه قال : كنت من أهل الصفة ، وإن كان ليغشى علي فيما بين بيت عائشة وأم سلمة من الجوع . ولا منافاة لوقوع التعدد ، وعند البخاري من طريق أبي حازم عنه : فلقيت عمر بن الخطاب يوما فاستقرأته آية ، فذكرها ، قال : فمشيت غير بعيد فخررت على وجهي من الجهد والجوع ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي . وعنده من طريق أبي سعيد المقبري عنه قال : كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشبع بطني ، وكنت ألصق بطني بالحصى من الجوع ، وإني كنت أستقرئ الرجل الآية وهي معي كي يفطن بي ويطعمني . وزاد الترمذي في الجامع من هذا الوجه : وكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب لم يجبني حتى يذهب بي إلى منزله ، فيقول لامرأته : يا أسماء أطعمينا ، فإذا أطعمتنا أجابني . قال : وكان جعفر يحب المساكين ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنيه بأبي المساكين ، وأخرج ابن حبان عنه قال : أتت علي ثلاثة أيام لم أطعم فجئت أريد الصفة ، فجعلت أسقط فجعل الصبيان يقولون جن أبو هريرة حتى انتهيت إلى الصفة فوافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقصعة ثريد فدعا عليها أهل الصفة وهم يأكلون منها ، فجعلت أتطاول كي يدعوني حتى قاموا وليس في القصعة إلا شيء في نواحيها ، فجمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت لقمة فوضعها على أصابعه فقال لي : " كل باسم الله " ، فوالذي نفسي بيده ما زلت آكل منها حتى شبعت . ووجه إيراد الخبر المذكور في هذا الباب إثبات فقره صلى الله عليه وسلم وتحقق عسرته في أيام عشرته ; إذ لو كان له سعة في أمور معيشته لم تكن أحوال أهل الصفة بهذه الصفة لأنهم كانوا أضياف النبي صلى الله عليه وسلم وجيرانه وكان اهتمامه بحالهم في أقصى مراتب الكمال ، والله أعلم بحقيقة الأحوال .

التالي السابق


الخدمات العلمية