صفحة جزء
الفصل السابع : حالته في أخبار الدنيا - صلى الله عليه وسلم -

هذا القول فيما طريقه البلاغ ، وأما ما ليس سبيله من الأخبار التي لا مستند لها إلى الأحكام ، ولا أخبار المعاد ، ولا تضاف إلى وحي ، بل في أمور الدنيا ، وأحوال نفسه فالذي يجب اعتقاده تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقع خبره في شيء من ذلك بخلاف مخبره ، لا عمدا ولا سهوا ولا غلطا ، وأنه معصوم من ذلك في حال رضاه ، وفي سخطه ، وجده ، ومزحه ، وصحته ، ومرضه .

ودليل ذلك اتفاق السلف ، وإجماعهم عليه ، وذلك أنا نعلم من دين الصحابة ، وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أحواله ، والثقة بجميع أخباره في أي باب كانت ، وعن أي شيء وقعت ، وأنه لم يكن لهم توقف ، ولا تردد في شيء منها ، ولا استثبات عن حاله عند ذلك ، هل وقع فيها سهو أم لا ؟

ولما احتج ابن أبي الحقيق اليهودي على عمر حين أجلاهم من خيبر بإقرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واحتج عليه عمر - رضي الله عنه - بقوله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 484 ] كيف بك إذا أخرجت من خيبر ؟ فقال اليهودي : كانت هزيلة من أبي القاسم . فقال له عمر : كذبت يا عدو الله .

وأيضا فإن أخباره ، وآثاره ، وسيره ، وشمائله معتنى بها مستقصى تفاصيلها ، ولم يرد في شيء منها استدراكه - صلى الله عليه وسلم - لغلط في قول قاله ، أو اعترافه بوهم في شيء أخبر به ، ولو كان ذلك لنقل كما نقل من قصته - عليه السلام - في رجوعه - صلى الله عليه وسلم - عما أشار به على الأنصار في تلقيح النخل ، وكان ذلك رأيا لا خبرا ، وغير ذلك من الأمور التي ليست من هذا الباب ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : والله لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيرا منها إلا فعلت الذي حلفت عليه ، وكفرت عن يميني .

وقوله : إنكم تختصمون إلي . . . الحديث .

وقوله : اسق يا زبير حتى يبلغ الماء الجدر كما سنبين كل ما في هذا من مشكل ما في هذا الباب ، والذي بعده إن شاء الله ، مع أشباههما .

وأيضا فإن الكذب متى عرف من أحد في شيء من الأخبار بخلاف ما هو على أي وجه كان استريب بخبره ، واتهم في حديثه ، ولم يقع قوله في النفوس موقعا ، ولهذا ترك المحدثون ، والعلماء الحديث عمن عرف بالوهم ، والغفلة ، وسوء الحفظ ، وكثرة الغلط للمروءة ، مع ثقته .

وأيضا فإن تعمد الكذب في أمور الدنيا معصية ، والإكثار منه كبيرة بإجماع ، مسقط للمروءة .

وكل هذا مما ينزه عنه منصب النبوة ، والمرة الواحدة منه فيما يستبشع ، ويستشنع ، ويشيع مما يخل بصاحبها ، ويزري بقائلها لاحقة بذلك .

وأما فيما لا يقع هذا الموقع فإن عددناها من الصغائر فهل تجري على حكمها في الخلاف فيها ؟ مختلف فيه . والصواب تنزيه النبوة عن قليله وكثيره ، سهوه وعمده ، إذ عمدة النبوة البلاغ ، والإعلام ، والتبيين ، وتصديق ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - . وتجويز شيء من هذا قادح في ذلك ، ومشكك فيه ، مناقض للمعجزة ، فلنقطع عن يقين بأنه لا يجوز على الأنبياء خلف في القول في وجه من الوجوه ، لا بقصد ، ولا بغير قصد ، ولا تتسامح مع من سامح في تجويز ذلك عليهم حال السهو مما ليس طريقه البلاغ ، نعم ، وبأنه لا يجوز عليهم الكذب قبل النبوة ، ولا الاتسام به في أمورهم ، وأحوال دنياهم ، لأن ذلك كان يزري ، ويريب ، وينفر القلوب عن تصديقهم بعد .

وانظر أحوال أهل عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - من قريش ، وغيرها من الأمم ، وسؤالهم عن حاله في صدق لسانه وما عرفوا به من ذلك ، واعترفوا به مما عرف ، واتفق النقل على عصمة نبينا - صلى الله عليه وسلم - منه قبل وبعد ، وقد ذكرنا من الآثار فيه في الباب الثاني أول الكتاب ما يبين لك صحة ما أشرنا إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية