صفحة جزء
[ ص: 485 ] الفصل الثامن : رد بعض الاعتراضات

فإن قلت : فما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث السهو الذي حدثنا به الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر حدثنا القاضي أبو الأصبغ بن سهل ، حدثنا حاتم بن محمد ، حدثنا أبو عبد الله بن الفخار ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا عبيد الله ، نا يحيى ، عن مالك ، عن داود بن الحصين ، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد أنه قال : سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر ، فسلم في ركعتين ، فقام ذو اليدين ، فقال : يا رسول الله ، أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : كل ذلك لم يكن .

وفي الرواية الأخرى : ما قصرت ، وما نسيت . . الحديث بقصته ، فأخبره بنفي الحالتين ، وأنها لم تكن ، وقد كان أحد ذلك كما قال ذو اليدين : قد كان بعض ذلك يا رسول الله . . .

فاعلم وفقنا الله ، وإياك أن للعلماء في ذلك أجوبة ، بعضها بصدد الإنصاف ، ومنها ما هو بنية التعسف ، والاعتساف ، وها أنا أقول :

أما على القول بتجويز الوهم ، والغلط فيما ليس طريقه من القول البلاغ وهو الذي زيفناه من القولين فلا اعتراض بهذا الحديث ، وشبهه .

وأما على مذهب من يمنع السهو في أفعاله جملة ، ويرى أنه في مثل هذا عامد لصورة النسيان ليسن ، فهو صادق في خبره ، لأنه لم ينس ، ولا قصرت ، ولكنه على هذا القول تعمد هذا الفعل في هذه الصورة لمن اعتراه مثله ، وهو قول مرغوب عنه ، ونذكره في موضعه .

وأما على إحالة السهو عليه في الأقوال ، وتجويز السهو عليه فيما ليس طريقه القول كما سنذكره ففيه أجوبة ، منها :

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن اعتقاده ، وضميره ، أما إنكار القصر فحق ، وصدق باطنا وظاهرا . وأما النسيان فأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن اعتقاده ، وأنه لم ينس في ظنه ، فكأنه قصد الخبر عن ظنه ، وإن لم ينطق به ، وهذا صدق أيضا .

ووجه ثان : أن قوله : ولم أنس راجع إلى السلام ، أي إني سلمت قصدا ، وسهوت عن العدد ، أي لم أسه في نفس السلام ، وهذا محتمل ، وفيه بعد .

ووجه ثالث : وهو أبعدهما ما ذهب إليه بعضهم ، وإن احتمله اللفظ من قوله : كل ذلك لم يكن : أي لم يجتمع القصر والنسيان بل كان أحدهما . ومفهوم اللفظ خلافه مع الرواية الأخرى الصحيحة ، وهو قوله : ما قصرت الصلاة ، وما نسيت .

هذا ما رأيت فيه لأئمتنا ، وكل من هذه الوجوه محتمل [ ص: 486 ] للفظ على بعد بعضها ، وتعسف الآخر منها .

قال القاضي أبو الفضل - وفقه الله - : والذي أقول ، ويظهر لي أنه أقرب من هذه الوجوه كلها أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : لم أنس إنكار للفظ الذي نفاه عن نفسه ، وأنكره على غيره بقوله : بئس ما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كذا ، وكذا ، ولكنه نسي .

وبقوله في بعض روايات الحديث الآخر : لست أنسى ، ولكن أنس . فلما قال له السائل : أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ أنكر قصرها كما كان ونسيانه هو من قبل نفسه ، وأنه إن كان جرى شيء من ذلك فقد نسي حتى سأل غيره ، فتحقق أنه نسي ، وأجري عليه ذلك ليسن ، فقوله على هذا : لم أنس ، ولم تقصر ، وكل ذلك لم يكن صدق وحق ، لم تقصر ، ولم ينس حقيقة ، ولكنه نسي .

ووجه آخر استثرته من كلام بعض المشايخ ، وذلك أنه قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسهو ، ولا ينسى ، ولذلك نفى عن نفسه النسيان قال : لأن النسيان غفلة ، وآفة ، والسهو إنما هو شغل بال ، قال : فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسهو في صلاته ، ولا يغفل عنها ، وكان يشغله عن حركات الصلاة ما في الصلاة ، شغلا بها لا غفلة عنها .

فهذا إن تحقق على هذا المعنى لم يكن في قوله : ما قصرت ولا نسيت خلف في قول .

وعندي أن قوله : ما قصرت الصلاة ، وما نسيت بمعنى الترك الذي هو أحد وجهي النسيان أراد ، والله أعلم أني لم أسلم من ركعتين تاركا لإكمال الصلاة ، ولكني نسيت ، ولم يكن ذلك من تلقاء نفسي .

والدليل على ذلك قوله في الحديث الصحيح : إني لأنسى أو أنسى لأسن ] .

وأما قصة كلمات إبراهيم المذكورة في الحديث أنها كذباته الثلاث المنصوصة في القرآن منها اثنتان : قوله : إني سقيم [ الصافات : 89 ] . وقوله : بل فعله كبيرهم هذا . [ الأنبياء : 63 ] ، وقوله للملك عن زوجته : إنها أختي فاعلم أكرمك الله أن هذه كلها خارجة عن الكذب ، لا في القصد ، ولا في غيره ، وهي داخلة في باب المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب .

أما قوله : إني سقيم [ الصافات : 89 ] فقال الحسن ، وغيره : معناه سأسقم ، أي إن كل مخلوق معرض لذلك ، فاعتذر لقومه من الخروج معهم إلى عيدهم بهذا .

وقيل : بل سقيم بما قدر علي من الموت .

وقيل : سقيم القلب بما أشاهده من كفركم ، وعنادكم .

وقيل : بل كانت الحمى تأخذه عند طلوع نجم [ ص: 487 ] معلوم ، فلما رآه اعتذر بعادته .

وكل هذا ليس فيه كذب ، بل هو خبر صحيح صدق .

وقيل : بل عرض بسقم حجته عليهم ، وضعف ما أراد بيانه لهم من جهة النجوم التي كانوا يشتغلون بها ، وأنه أثناء نظره في ذلك ، وقبل استقامة حجته عليهم في حال سقم ومرض مع أنه لم يشك هو ، ولا ضعف إيمانه ولكنه ضعف في استدلاله عليهم ، وسقم نظره ، كما يقال : حجة سقيمة ، ونظر معلول ، حتى ألهمه الله باستدلاله ، وصحة حجته عليهم بالكواكب ، والشمس ، والقمر ما نصه الله - تعالى - ، وقدمنا بيانه .

وأما قوله : بل فعله كبيرهم هذا [ الأنبياء : 63 ] الآية . فإنه علق خبره بشرط نطقه ، كأنه قال : إن كان ينطق فهو فعله على طريق التبكيت لقومه . وهذا صدق أيضا ، ولا خلف فيه .

وأما قوله : أختي فقد بين في الحديث ، وقال : فإنك أختي في الإسلام ، وهو صدق ، والله - تعالى - يقول : إنما المؤمنون إخوة [ الحجرات : 10 ] .

فإن قلت : فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سماها كذبات ، وقال : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات وقال في حديث الشفاعة : ويذكر كذباته فمعناه أنه لم يتكلم بكلام صورته صورة الكذب ، وإن كان حقا في الباطن إلا هذه الكلمات .

ولما كان مفهوم ظاهرها خلاف باطنها أشفق إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - من مؤاخذته بها .

وأما الحديث : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد غزوة ، ورى بغيرها فليس فيه خلف في القول ، إنما هو ستر مقصده ، لئلا يأخذ عدوه حذره ، وكتم وجه ذهابه بذكر السؤال عن موضع آخر ، والبحث عن أخباره ، والتعريض بذكره ، لا أنه يقول : تجهزوا إلى غزوة كذا ، أو وجهتنا إلى موضع كذا خلاف مقصده ، فهذا لم يكن ، والأول ليس فيه خبر يدخله الخلف .

فإن قلت : فما معنى قول موسى - عليه السلام - ، وقد سئل : أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا أعلم ، فعتب الله عليه ذلك ، إذ لم يرد العلم إليه - الحديث - ، وفيه قال : بل عبد لنا بمجمع البحرين أعلم منك .

وهذا خبر قد أنبأنا الله أنه ليس كذلك .

فاعلم أنه قد وقع في هذا الحديث من بعض طرقه الصحيحة ، عن ابن عباس : هل تعلم أحدا أعلم منك ؟ .

فإذا كان جوابه على علمه فهو خبر حق وصدق لا خلف فيه ، ولا شبهة .

وعلى الطريق الآخر فمحمله على ظنه ومعتقده ، كما لو صرح به ، لأن حاله في النبوة ، والاصطفاء يقتضي ذلك ، فيكون إخباره بذلك أيضا عن اعتقاده ، وحسبانه صدقا لا خلف فيه .

وقد يريد بقوله : أنا أعلم بما تقتضيه وظائف النبوة من علوم التوحيد ، وأمور الشريعة ، وسياسة الأمة ، ويكون الخضر أعلم منه بأمور أخر مما لا يعلمه أحد إلا بإعلام الله من علوم غيبه ، كالقصص المذكورة في خبرهما ، فكان موسى - عليه السلام - أعلم على الجملة بما تقدم . وهذا أعلم على الخصوص بما أعلم .

ويدل عليه قوله - تعالى - : وعلمناه من لدنا علما [ الكهف : 65 ] .

وعتب الله ذلك عليه فيما قاله العلماء إنكار هذا القول عليه ، لأنه لم يرد العلم إليه ، كما قالت الملائكة : [ ص: 488 ] لا علم لنا إلا ما علمتنا أو لأنه لم يرض قوله شرعا ، وذلك ، والله أعلم لئلا يقتدي به فيه من لم يبلغ كماله في تزكية نفسه ، وعلو درجته من أمته ، فيهلك لما تضمنه من مدح الإنسان نفسه ، ويورثه ذلك من الكبر ، والعجب ، والتعاطي ، والدعوى ، وإن نزه عن هذه الرذائل الأنبياء فغيرهم بمدرجة سبيلها ، ودرك ليلها إلا من عصمه الله ، فالتحفظ أولى لنفسه ، وليقتدى به ، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - تحفظا من مثل هذا مما قد علم به : أنا سيد ولد آدم ، ولا فخر .

وهذا الحديث إحدى حجج القائلين بنبوة الخضر ، لقوله فيه : أنا أعلم من موسى . ولا يكون الولي أعلم من النبي .

وأما الأنبياء فيتفاضلون في المعارف .

وبقوله : وما فعلته عن أمري فدل أنه بوحي . ومن قال : إنه ليس بنبي قال : يحتمل أن يكون فعله بأمر نبي آخر .

وهذا يضعف ، لأنه ما علمنا أنه كان في زمن موسى نبي غيره إلا أخاه هارون ، وما نقل أحد من أهل الأخبار في ذلك شيئا يعول عليه .

وإذا جعلنا [ أعلم منك ] ليس على العموم ، وإنما هو على الخصوص ، وفي قضايا معينة لم يحتج إلى إثبات نبوة الخضر ، ولهذا قال بعض الشيوخ : كان موسى أعلم من الخضر فيما أخذ عن الله ، والخضر أعلم فيما دفع إليه من موسى .

وقال آخر : إنما ألجئ موسى إلى الخضر للتأديب لا للتعليم .

التالي السابق


الخدمات العلمية