صفحة جزء
الفصل الحادي عشر : وجوه أخرى للإعجاز

وقد عد جماعة من الأئمة ، ومقلدي الأمة في إعجازه وجوها كثيرة ، منها أن قارئه لا يمله ، وسامعه لا يمجه ، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة ، وترديده يوجب له محبة ، لا يزال غضا طريا ، وغيره من الكلام ، ولو بلغ في الحسن ، والبلاغة مبلغه يمل مع الترديد ، ويعادى إذا أعيد ، وكتابنا يستلذ به في الخلوات ، ويؤنس بتلاوته في الأزمات ، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك ، حتى أحدث أصحابها لحونا ، وطرقا يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها .

ولهذا وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عبره ، ولا تفنى عجائبه ، هو الفصل ليس بالهزل ، لا يشبع منه العلماء ، ولا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، هو الذي لم تنته الجن حين سمعته أن قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا [ الجن : 1 ] .

ومنها جمعه لعلوم ، ومعارف لم تعهد العرب عامة ، ولا محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل نبوته خاصة بمعرفتها ، ولا القيام بها ، ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم ، ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم ، فجمع فيه من بيان علم الشرائع ، والتنبيه على طرق الحجج العقليات ، والرد على فرق الأمم ، ببراهين قوية ، وأدلة بينة سهلة الألفاظ ، موجزة المقاصد ، رام المتحذلقون بعد أن ينصبوا أدلة مثلها فلم يقدروا عليها كقوله - تعالى - : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو [ يس : 81 ] .

و : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ يس : 79 ] .

و : لو كان فيهما آلهة إلا الله [ الأنبياء : 22 ] .

إلى ما حواه من علوم السير ، وأنباء الأمم ، والمواعظ ، والحكم ، وأخبار الدار الآخرة ، ومحاسن الآداب ، والشيم .

قال الله جل اسمه : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] .

ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ ص: 289 ] [ النحل : 89 ] .

ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل [ الروم : 58 ] .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : إن الله أنزل هذا القرآن آمرا ، وزاجرا ، وسنة خالية ، ومثلا مضروبا ، فيه نبؤكم ، وخبر ما كان قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، لا يخلقه طول الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الحق ليس بالهزل ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن خاصم به فلج ، ومن قسم به أقسط ، ومن عمل به أجر ، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم ، ومن طلب الهدى من غيره أضله الله ، ومن حكم بغيره قصمه الله ، هو الذكر الحكيم ، والنور المبين ، والصراط المستقيم ، وحبل الله المتين ، والشفاء النافع ، عصمة لمن تمسك به ، ونجاة لمن اتبعه ، لا يعوج فيقوم ، ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرد .

ونحوه عن ابن مسعود ، وقال فيه : ولا يختلف ، ولا يتشان ، فيه نبأ الأولين ، والآخرين .

وفي الحديث : قال الله - تعالى - لمحمد - صلى الله عليه وسلم - : إني منزل عليك توراة حديثة ، تفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا ، فيها ينابيع العلم ، وفهم الحكمة ، وربيع القلوب .

وعن كعب : عليكم بالقرآن فإنه فهم العقول ، ونور الحكمة .

وقال - تعالى - : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون [ النمل : 76 ] .

وقال : هذا بيان للناس وهدى [ آل عمران : 138 ] الآية .

فجمع فيه مع وجازة ألفاظه ، وجوامع كلمه أضعاف ما في الكتب قبله التي ألفاظها على الضعف منه مرات .

ومنها جمعه فيه بين الدليل ، ومدلوله ، وذلك أنه احتج بنظم القرآن وحسن وصفه ، وإيجازه ، وبلاغته ، وأثناء هذه البلاغة أمره ، ونهيه ، ووعده ، ووعيده ، فالتالي له يفهم موضع الحجة ، والتكليف معا من كلام واحد ، وسورة منفردة .

ومنها أن جعله في حيز المنظوم الذي لم يعهد ، ولم يكن في حيز المنثور ، لأن المنظوم [ ص: 290 ] أسهل على النفوس ، وأوعى للقلوب ، وأسمع في الآذان وأحلى على الأفهام ، فالناس إليه أميل ، والأهواء إليه أسرع .

ومنها تيسيره - تعالى - حفظه لمتعلميه ، وتقريبه على متحفظيه ، قال الله - تعالى - : ولقد يسرنا القرآن للذكر [ القمر : 22 ] .

وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منهم ، فكيف الجماء على مرور السنين عليهم . والقرآن ميسر حفظه للغلمان في أقرب مدة .

ومنها مشاكلة بعض أجزائه بعضا ، وحسن ائتلاف أنواعها ، والتئام أقسامها ، وحسن التخلص من قصة إلى أخرى ، والخروج من باب إلى غيره على اختلاف معانيه ، وانقسام السورة الواحدة إلى أمر ، ونهي ، وخبر ، واستخبار ، ووعد ، ووعيد ، وإثبات نبوة ، وتوحيد ، وتفريد ، وترغيب ، وترهيب ، إلى غير ذلك من فوائده ، دون خلل يتخلل فصوله .

والكلام الفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوته ، ولانت جزالته ، وقل رونقه ، وتقلقلت ألفاظه .

فتأمل أول ص والقرآن ذي الذكر [ ص : 1 ] وما جمع فيها من أخبار الكفار ، وشقاقهم ، وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم ، وما ذكر من تكذيبهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وتعجبهم مما أتى به ، والخبر عن اجتماع ملئهم على الكفر ، وما ظهر من الحسد في كلامهم ، وتعجيزهم ، وتوهينهم ، ووعيدهم بخزي الدنيا ، والآخرة ، وتكذيب الأمم قبلهم ، وإهلاك الله لهم ، ووعيد هؤلاء مثل مصابهم ، وتصبير النبي - صلى الله عليه وسلم - على أذاهم ، وتسليته بكل ما تقدم ذكره ، ثم أخذ في ذكر داود ، وقصص الأنبياء ، كل هذا في أوجز كلام ، وأحسن نظام .

ومنه الجملة الكثيرة التي انطوت عليها الكلمات القليلة ، وهذا كله ، وكثير مما ذكرنا أنه ذكر في إعجاز القرآن إلى وجوه كثيرة ذكرها الأئمة لم نذكرها ، إذ أكثرها داخل في باب بلاغته ، فلا يجب أن يعد فنا منفردا في إعجازه ، إلا في باب تفصيل فنون البلاغة ، وكذلك كثير مما قدمنا ذكره عنهم يعد في خواصه ، وفضائله ، لا إعجازه .

وحقيقة الإعجاز الوجوه الأربعة التي ذكرنا ، فليعتمد عليها ، وما بعدها من خواص القرآن وعجائبه التي لا تنقضي . والله ولي التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية