مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال الدرجة الثالثة : أن لا يشهد العبد إلا المنعم . فإذا شهد المنعم عبودية : استعظم منه النعمة . وإذا شهده حبا : استحلى منه الشدة . وإذا شهده تفريدا : لم يشهد منه نعمة ، ولا شدة .

هذه الدرجة يستغرق صاحبها بشهود المنعم عن النعمة . فلا يتسع شهوده للمنعم ولغيره .

وقسم أصحابها إلى ثلاثة أقسام : أصحاب شهود العبودية . وأصحاب شهود الحب . وأصحاب شهود التفريد . وجعل لكل منهم حكما ، هو أولى به .

فأما شهوده عبودية : فهو مشاهدة العبد للسيد بحقيقة العبودية والملك له ، فإن العبيد إذا حضروا بين يدي سيدهم ، فإنهم ينسون ما هم فيه من الجاه ، والقرب الذي اختصوا به عن غيرهم باستغراقهم في أدب العبودية وحقها ، وملاحظتهم لسيدهم ، خوفا أن يشير إليهم بأمر ، فيجدهم غافلين عن ملاحظته . وهذا أمر يعرفه من شاهد أحوال الملوك وخواصهم .

فهذا هو شهود العبد للمنعم بوصف عبوديته له ، واستغراقه عن الإحسان بما حصل له منه القرب الذي تميز به عن غيره .

فصاحب هذا المشهد : إذا أنعم عليه سيده في هذه الحال - مع قيامه في مقام العبودية - يوجب عليه أن يستصغر نفسه في حضرة سيده غاية الاستصغار ، مع امتلاء قلبه من محبته ، فأي إحسان ناله منه في هذه الحالة . رآه عظيما . والواقع شاهد بهذا في حال [ ص: 245 ] المحب الكامل المحبة ، المستغرق في مشاهدة محبوبه إذا ناوله شيئا يسيرا . فإنه يراه في ذلك المقام عظيما جدا . ولا يراه غيره كذلك .

القسم الثاني : يشهد الحق شهود محبة غالبة قاهرة له ، مستغرق في شهوده كذلك . فإنه يستحلي في هذه الحال الشدة منه . لأن المحب يستحلي فعل المحبوب به .

وأقل ما في هذا المشهد : أن يخف عليه حمل الشدائد ، إن لم تسمح نفسه باستحلائها . وفي هذا من الحكايات المعروفة عند الناس ما يغني عن ذكرها ، كحال الذي كان يضرب بالسياط ولا يتحرك ، حتى ضرب آخر سوط . فصاح صياحا شديدا . فقيل له في ذلك . فقال : العين التي كانت تنظر إلي وقت الضرب كانت تمنعني من الإحساس بالألم . فلما فقدتها وجدت ألم الضرب .

وهذه الحال عارضة ليست بلازمة . فإن الطبيعة تأبى استحلاء المنافي كاستحلاء الموافق .

نعم قد يقوى سلطان المحبة حتى يستحلي المحب ما يستمره غيره . ويستخف ما يستثقله غيره . ويأنس بما يستوحش منه الخلي . ويستوحش مما يأنس به ، ويستلين ما يستوعره . وقوة هذا وضعفه بحسب قهر سلطان المحبة ، وغلبته على قلب المحب .

القسم الثالث : أن يشهده تفريدا . فإنه لا يشهد معه نعمة ولا شدة .

يقول : إن شهود التفريد : يفني الرسم . وهذه حال الفناء المستغرق فيه ، الذي لا يشهد نعمة ولا بلية . فإنه يغيب بمشهوده عن شهوده له . ويفنى به عنه . فكيف يشهد معه نعمة أو بلية ؟ كما قال بعضهم في هذا : من كانت مواهبه لا تتعدى يديه فلا واهب ولا موهوب .

وذلك مقام الجمع عندهم ، وبعضهم يحرم العبارة عنه .

وحقيقته : اصطلام يرفع إحساس صاحبه برسمه ، فضلا عن رسم غيره ، لاستغراقه في مشهوده وغيبته به عما سواه ، وهذا هو مطلوب القوم .

وقد عرفت أن فوقه مقاما أعلى منه ، وأرفع وأجل . وهو أن يصطلم بمراده عن غيره . فيكون في حال مشاهدته واستغراقه : منفذا لمراسيمه ومراده . ملاحظا لما يلاحظ محبوبه من المرادات والأوامر .

فتأمل الآن عبدين بين يدي ملك من ملوك الدنيا . وهما على موقف واحد بين يديه . أحدهما مشغول بمشاهدته . فإن استغراقه في ملاحظة الملك ، ليس فيه متسع إلى [ ص: 246 ] ملاحظة شيء من أمور الملك ألبتة . وآخر مشغول بملاحظة حركات الملك وكلماته ، وإيش أمره ولحظاته وخواطره ، ليرتب على كل من ذلك ما هو مراد للملك .

وتأمل قصة بعض الملوك : الذي كان له غلام يخصه بإقباله عليه وإكرامه ، والحظوة عنده من بين سائر غلمانه - ولم يكن الغلام أكثرهم قيمة ، ولا أحسنهم صورة - فقالوا له في ذلك . فأراد السلطان أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره . فيوما من الأيام كان راكبا في بعض شئونه . ومعه الحشم ، وبالبعد منه جبل عليه ثلج . فنظر السلطان إلى ذلك الثلج وأطرق . فركض الغلام فرسه . ولم يعلم القوم لماذا ركض . فلم يلبث أن جاء ومعه شيء من الثلج . فقال السلطان : ما أدراك أني أريد الثلج ؟ فقال الغلام : لأنك نظرت إليه . ونظر الملوك إلى شيء لا يكون عن غير قصد . فقال السلطان : إنما أخصه بإكرامي وإقبالي لأن لكل واحد منكم شغلا ، وشغله مراعاة لحظاتي ، ومراقبة أحوالي . يعني في تحصيل مرادي .

وسمعت بعض الشيوخ يقول : لو قال ملك لغلامين له بين يديه ، مستغرقين في مشاهدته ، والإقبال عليه : اذهبا إلى بلاد عدوي . فأوصلا إليهم هذه الكتب . وطالعاني بأحوالهم . وافعلا كيت وكيت . فأحدهما : مضى من ساعته لوجهه . وبادر ما أمره به ، والآخر قال : أنا لا أدع مشاهدتك ، والاستغراق فيك . ودوام النظر إليك . ولا أشتغل بغيرك : لكان هذا جديرا بمقت الملك له ، وبغضه إياه ، وسقوطه من عينه . إذ هو واقف مع مجرد حظه من الملك . لا مع مراد الملك منه ، بخلاف صاحبه الأول .

وسمعته أيضا يقول : لو أن شخصين ادعيا محبة محبوب . فحضرا بين يديه . فأقبل أحدهما على مشاهدته والنظر إليه فقط . وأقبل الآخر على استقراء مراداته ومراضيه وأوامره ليمتثلها . فقال لهما : ما تريدان ؟ فقال أحدهما : أريد دوام مشاهدتك ، والاستغراق في جمالك ، وقال الآخر : أريد تنفيذ أوامرك ، وتحصيل مراضيك . فمرادي منك ما تريده أنت مني . لا ما أريده أنا منك . والآخر قال : مرادي منك تمتعي بمشاهدتك . أكانا عنده سواء ؟

فمن هو الآن صاحب المحبة المعلولة المدخولة ، الناقصة النفسانية ، وصاحب المحبة الصحيحة الصادقة الكاملة ؟ أهذا أم هذا ؟

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يحكي عن بعض العارفين أنه قال : الناس يعبدون الله . والصوفية يعبدون أنفسهم .

أراد هذا المعنى المتقدم ، وأنهم واقفون مع مرادهم من الله . لا مع مراد الله منهم . [ ص: 247 ] وهذا عين عبادة النفس . فليتأمل اللبيب هذا الموضع حق التأمل . فإنه محك وميزان . والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية