بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما صفة التيمم فهي أنه بدل بلا شك ، لأن جوازه معلق بحال عدم الماء لكنهم اختلفوا في كيفية البدلية من وجهين : أحدهما - الخلاف فيه مع غير أصحابنا ، والثاني مع أصحابنا ، ( أما ) الأول فقد قال أصحابنا : إن التيمم بدل مطلق وليس ببدل ضروري وعنوا به أن الحدث يرتفع بالتيمم إلى وقت وجود الماء في حق الصلاة المؤداة ، إلا أنه يباح له الصلاة مع قيام الحدث .

وقال الشافعي : التيمم بدل ضروري ، وعنى به أنه يباح له الصلاة مع قيام الحدث حقيقة للضرورة كطهارة المستحاضة وجه قوله : لتصحيح هذا الأصل أن التيمم لا يزيل هذا الحدث ، بدليل أنه لو رأى الماء تعود الجنابة والحدث ، مع أن رؤية الماء ليست بحدث ، فعلم أن الحدث لم يرتفع لكن أبيح له أداء الصلاة مع قيام الحدث للضرورة كما في المستحاضة .

( ولنا ) ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { التيمم وضوء المسلم ، ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء أو يحدث } فقد سمى التيمم وضوءا والوضوء مزيل للحدث وقال : صلى الله عليه وسلم { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } ، والطهور اسم للمطهر ، فدل على أن الحدث يزول بالتيمم إلا أن زواله مؤقت إلى غاية وجود الماء ، فإذا وجد الماء يعود الحدث السابق لكن في المستقبل لا في الماضي ، فلم يظهر في حق الصلاة المؤداة ، وعلى هذا الأصل يبنى التيمم قبل دخول الوقت أنه جائز عندنا .

وعند الشافعي لا يجوز ; لأنه بدل مطلق عند عدم الماء فيجوز قبل دخول الوقت وبعده ، وعنده بدل ضروري فتتقدر بدليته بقدر الضرورة ، ولا ضرورة قبل دخول الوقت ، وعلى هذا يبنى أيضا أنه إذا تيمم في الوقت يجوز له أن يؤدي ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم يجد الماء أو يحدث عندنا ، وعنده لا يجوز له أن يؤدي به فرضا آخر غير ما تيمم لأجله ، وله أن يصلي به النوافل لكونها تابعة للفرائض ، وثبوت الحكم في التبع لا يقف على وجود علة على حدة أو شرط على حدة فيه ، بل وجود ذلك في الأصل يكفي لثبوته في التبع كما هو مذهبه في طهارة المستحاضة ، وعلى هذا يبني أنه إذا تيمم للنفل [ ص: 56 ] يجوز له أن يؤدي به النفل والفرض عندنا ، وعنده لا يجوز له أداء الفرض ; لأن التبع لا يستتبع الأصل ، وعلى هذا قال الزهري : إنه لا يجوز التيمم لصلاة النافلة رأسا ; لأنه طهارة ضرورية والضرورة في الفرائض لا في النوافل ، وعندنا يجوز ; لأنه طهارة مطلقة حال عدم الماء ; ولأنه كان لا يحتاج إلى إسقاط الفرض عن نفسه به يحتاج إلى إحراز الثواب لنفسه ، والحاجة إلى إحراز الثواب حاجة معتبرة فيجوز أن يعتبر الطهارة لأجله ; ولهذا اعتبرت طهارة المستحاضة في حق النوافل بلا خلاف كذا ههنا ، ( وأما ) الخلاف الذي مع أصحابنا في كيفية البدلية فهو أنهم اختلفوا في أن التراب بدل عن الماء عند عدمه ، والبدلية بين التراب وبين الماء أو التيمم بدل عن الوضوء عند عدمه ، والبدلية بين التيمم وبين الوضوء ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف : إن التراب بدل عن الماء عند عدمه ، والبدلية بين التراب والماء .

وقال محمد : التيمم بدل عن الوضوء عند عدمه ، والبدلية بين التيمم وبين الوضوء واحتج محمد لتصحيح أصله بالحديث ، وهو قوله : صلى الله عليه وسلم { التيمم وضوء المسلم } الحديث سمى التيمم وضوءا دون التراب ، وهما احتجا بالكتاب والسنة ، أما الكتاب فقوله : تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } أقام الصعيد مقام الماء عند عدمه .

وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : التراب طهور المسلم }

وقال { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } ويتفرع عن هذا الاختلاف أن المتيمم إذا أم المتوضئين جازت إمامته إياهم ، وصلاتهم جائزة إذا لم يكن مع المتوضئين ماء في قول ، أبي حنيفة وأبي يوسف وإن كان معهم ماء لا تجوز صلاتهم ، وعند محمد لا يجوز اقتداؤهم به سواء كان معهم ماء أو لم يكن ، وعند زفر يجوز ، كان معهم ماء أو لم يكن ، وجه البناء على هذا الأصل أن عند محمد لما كانت البدلية بين التيمم وبين الوضوء فالمقتدي إذا كان على وضوء لم يكن تيمم الإمام طهارة في حقه ، لوجود الأصل في حقه ، فكان مقتديا بمن لا طهارة له في حقه فلا يجوز اقتداؤه به ، كالصحيح إذا اقتدى بصاحب الجرح السائل أنه لا يجوز له ، لأن طهارة الإمام ليست بطهارة في حق المقتدي ، فلم تعتبر طهارته في حقه فكان مقتديا بمن لا طهارة له في حقه ، فلم يجز اقتداؤه به كذا هذا ، ولما كانت البدلية بين التراب وبين الماء عندهما فإذا لم يكن مع المقتدين ماء كان التراب طهارة مطلقة في حال عدم الماء ، فيجوز اقتداؤهم به فصار كاقتداء الغاسل بالماسح بخلاف صاحب الجرح السائل ; لأن طهارته ضرورية ; لأن الحدث يقارنها أو يطرأ عليها فلا تعتبر في حق الصحيح ، وإذا كان معهم ماء فقد فات الشرط في حق المقتدين فلا يبقى التراب طهورا في حقهم ، فلم تبق طهارة الإمام طهارة في حقهم فلا يصح اقتداؤهم به ، وعلى هذا الأصل المتيمم إذا أم المتوضئين ولم يكن معهم ماء ، ثم رأى واحد منهم الماء ولم يعلم به الإمام والآخرون ، حتى فرغوا فصلاته فاسدة .

وقال زفر : لا تفسد وهو رواية عن أبي يوسف ; لأنه متوضئ في نفسه ، فرؤية الماء لا تكون مفسدة في حقه ، وإنما تفسد صلاته بفساد صلاة الإمام وهي صحيحة ، .

( ولنا ) أن طهارة الإمام جعلت عدما في حقه لقدرته على الماء الذي هو أصل ، إذ لا يبقى الخلف مع وجود الأصل فصار معتقدا فساد صلاة الإمام ، والمقتدي إذا اعتقد فساد صلاة الإمام تفسد صلاته ، كما لو اشتبهت عليهم القبلة فتحرى الإمام إلى جهة والمقتدي إلى جهة أخرى ، وهو يعلم أن إمامه يصلي إلى جهة أخرى لا يصح اقتداؤه به كذا هذا ، ثم نتكلم في المسألة ابتداء : فحجة محمد ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : لا يؤم المتيمم المتوضئين ، ولا المقيد المطلقين وهذا نص في الباب ، وحجتهما ما روينا من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية ، وما روي عن علي فهو مذهبه وقد خالفه ابن عباس رضي الله عنه والمسألة إذا كانت مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم لا يكون قول البعض حجة على البعض ، على أن فيه أنه لا يؤم ، وليس فيه أنه لو أم لا يجوز ، وهذا كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه } ثم لو أم جاز كذا هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية