بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

( وأما ) حكم النذر فالكلام فيه في مواضع : الأول في بيان أصل الحكم ، والثاني في بيان وقت ثبوته ، والثالث في بيان كيفية ثبوته .

- أما أصل الحكم فالناذر لا يخلو من أن يكون نذر وسمى ، أو نذر ولم يسم ، فإن نذر وسمى فحكمه وجوب الوفاء بما سمى ، بالكتاب العزيز والسنة والإجماع والمعقول .

( أما ) الكتاب الكريم فقوله - عز شأنه - { وليوفوا نذورهم } ، وقوله تعالى : { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا } ، وقوله - سبحانه - : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } ، والنذر نوع عهد من الناذر مع الله - جل وعلا - فيلزمه الوفاء بما عهد ، وقوله - جلت عظمته - { أوفوا بالعقود } أي العهود ، وقوله - عز شأنه - : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن } إلى قوله تعالى : { بما أخلفوا الله ما وعدوه } ألزم الوفاء بعهده حيث أوعد على ترك الوفاء .

( وأما ) السنة فقول النبي عليه الصلاة والسلام : { من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه } ، وقوله عليه الصلاة والسلام : { من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى } ، وعلى كلمة إيجاب ، وقوله عليه الصلاة والسلام : { المسلمون عند شروطهم } ، والناذر شرط الوفاء بما نذر فيلزمه مراعاة شرطه ، وعليه إجماع الأمة .

( وأما ) المعقول فهو أن المسلم يحتاج إلى أن يتقرب إلى الله - سبحانه وتعالى - بنوع من القرب المقصودة التي له رخصة تركها لما يتعلق به من المعاقبة الحميدة ، وهي نيل الدرجات العلى ، والسعادة العظمى في دار الكرامة ، وطبعه لا يطاوعه على تحصيله ، بل يمنعه عنه ; لما فيه من المضرة الحاضرة وهي المشقة ، ولا ضرورة في الترك فيحتاج إلى اكتساب سبب يخرجه عن رخصة الترك ، ويلحقه بالفرائض الموظفة ، وذلك يحصل بالنذر ; لأن الوجوب يحمله على التحصيل ; خوفا من مضرة الترك فيحصل مقصوده ، فثبت أن حكم النذر الذي فيه تسمية هو وجوب الوفاء بما سمى ، وسواء كان النذر مطلقا أو مقيدا معلقا بشرط بأن قال : إن فعلت كذا فعلي لله حج أو عمرة أو صوم أو صلاة أو ما أشبه ذلك من الطاعات ، حتى لو فعل ذلك يلزمه الذي جعله على نفسه ، ولم يجز عنه كفارة ، وهذا قول أصحابنا رضي الله عنهم .

وقال الشافعي رحمه الله : إن علقه بشرط يريد كونه لا يخرج عنه بالكفارة ، كما إذا قال : إن شفى الله مريضي ، أو إن قدم غائبي - فعلي كذا ، وإن علقه بشرط لا يريد كونه بأن قال : إن كلمت فلانا ، أو قال : إن دخلت الدار فلله علي [ ص: 91 ] كذا - يخرج عنه بالكفارة ، وهو بالخيار إن شاء وفى بالنذر ، وإن شاء كفر وأصحاب الشافعي رحمه الله يسمون هذا يمين الغصب .

وروى عامر عن علي بن معبد عن محمد رحمهم الله : أنه رجع عن ذلك وقال يجزئ فيه كفارة اليمين وروى عبد الله بن المبارك وغيره عن أبي حنيفة رحمه الله : أنه يجزيه كفارة اليمين .

وروي أن أبا حنيفة - عليه الرحمة - رجع إلى الكفارة في آخر عمره ، فإنه روي عن عبد العزيز بن خالد أنه قال : قرأت على أبي حنيفة رحمه الله كتاب الأيمان ، فلما انتهيت إلى هذه المسألة قال : قف فإن من رأيي أن أرجع إلى الكفارة ، قال : فخرجت حاجا فلما رجعت وجدت أبا حنيفة - عليه الرحمة - قد مات ، فأخبرني الوليد بن أبان أن أبا حنيفة رجع عن الكفارة ; والمسألة مختلفة بين الصحابة : رضي الله عنهم روي عن علي وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أن عليه الوفاء بما سمى ، وعن سيدنا عمر وعبد الله ابن سيدنا عمر وسيدتنا عائشة وسيدتنا حفصة رضي الله عنهم أن عليه الكفارة .

واحتج من قال بوجوب الكفارة بقوله - جلت عظمته - : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } وقوله - جل شأنه - : { ذلك كفارة أيمانكم } وهذا يمين ; لأن اليمين بغير الله - تعالى جل شأنه - شرط وجزاء ، وهذا كذلك .

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { النذر يمين وكفارته كفارة اليمين } ، وهذا نص ، ولأن هذا في معنى اليمين بالله - تعالى جل شأنه - ; لأن المقصد من اليمين بالله - تعالى - الامتناع من المحلوف عليه ، أو تحصيله خوفا من لزوم الحنث ، وهذا موجود ههنا ; لأنه إن قال : إن فعلت كذا فعلي حجة ، فقد قصد الامتناع من تحصيل الشرط ، وإن قال : إن لم أفعل كذا فعلي حجة ، فقد قصد تحصيل الشرط ، وكل ذلك خوفا من الحنث فكان في معنى اليمين بالله - تعالى - فتلزمه الكفارة عند الحنث .

( ولنا ) قوله - جل شأنه - : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله } الآية ، وغيرها من نصوص الكتاب العزيز والسنة المقتضية لوجوب الوفاء بالنذر عاما مطلقا من غير فصل بين المطلق والمعلق بالشرط ، والوفاء بالنذر هو فعل ما تناوله النذر لا الكفارة ; ولأن الأصل اعتبار التصرف على الوجه الذي أوقعه المتصرف تنجيزا كان أو تعليقا بشرط ; والمتصرف أوقعه نذرا عليه عند وجود الشرط وهو إيجاب الطاعة المذكورة لا إيجاب الكفارة ، واحتج أبو يوسف رحمه الله في ذلك وقال : القول بوجوب الكفارة يؤدي إلى وجوب القليل بإيجاب الكثير ، ووجوب الكثير بإيجاب القليل ; لأنه لو قال : إن فعلت كذا فعلي صوم سنة ، أو إطعام ألف مسكين - لزمه صوم ثلاثة أيام ، أو إطعام عشرة مساكين ، ولو قال : إن فعلت كذا فعلي صوم يوم ، أو إطعام مسكين - لزمه إطعام عشرة مساكين ، أو صوم ثلاثة ، ولا حجة لهم بالآية الكريمة ; لأن المراد بها اليمين بالله - عز شأنه - ; لأن الله - تعالى - أثبت باليمين المعقودة ما نفاه بيمين اللغو بقوله - تعالى جلت كبرياؤه - : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } ، والمراد من النفي اليمين بالله - تعالى - كذا في الإثبات ، والحديث محمول على النذر المبهم توفيقا بين الدلائل ، صيانة لها عن التناقض .

وأما قولهم : إن هذا في معنى اليمين بالله - تعالى - ممنوع بأن النذر المعلق بالشرط صريح في الإيجاب عند وجود الشرط ، واليمين بالله - تعالى - ليس بصحيح في الإيجاب ، وكذا الكفارة في اليمين بالله - تعالى - تجب جبرا لهتك حرمة اسم الله - عز اسمه - الحاصل بالحنث ، وليس في الحنث ههنا هتك حرمة اسم الله تعالى ، وإنما فيه إيجاب الطاعة ، فلم يكن في معنى اليمين بالله - تعالى - ، ثم الوفاء بالمنذور به نفسه حقيقة ، إنما يجب عند الإمكان ، فأما عند التعذر فإنما يجب الوفاء به تقديرا بخلفه ; لأن الخلف يقوم مقام الأصل ، كأنه هو ، كالتراب حال عدم الماء ، والأشهر حال عدم الإقراء ، حتى لو نذر الشيخ الفاني بالصوم ، يصح نذره ، وتلزمه الفدية ; لأنه عاجز عن الوفاء بالصوم حقيقة فيلزمه الوفاء به تقديرا بخلفه ، ويصير كأنه صام ، وعلى هذا يخرج أيضا النذر بذبح الولد ، أنه يصح عند أبي حنيفة - عليه الرحمة - ومحمد رحمه الله ويجب ذبح الشاة ; لأنه إن عجز عن تحقيق القربة بذبح الولد حقيقة لم يعجز عن تحقيقها بذبحه تقديرا بذبح خلفه وهو الشاة ، كما في الشيخ الفاني إذا نذر بالصوم .

( وأما ) وجوب الكفارة عند فوات المنذور به إذا كان معينا ، بأن نذر صوم شهر بعينه ، ثم أفطر فهل هو من حكم النذر ؟ فجملة الكلام فيه : أن الناذر لا يخلو إما إن قال ذلك ونوى النذر ولم يخطر بباله اليمين أو نوى النذر ونوى أن لا يكون يمينا ، أو لم يخطر بباله شيء لا النذر ولا اليمين ، أو نوى اليمين ولم يخطر بباله النذر ، أو نوى اليمين ونوى أن لا يكون [ ص: 92 ] نذرا ، أو نوى النذر واليمين جميعا فإن لم يخطر بباله شيء لا النذر ولا اليمين ، أو نوى النذر ولم يخطر بباله اليمين ، أو نوى النذر ونوى أن لا يكون يمينا - يكون نذرا بالإجماع .

وإن نوى اليمين ونوى أن لا يكون نذرا يكون يمينا ولا يكون نذرا بالاتفاق ، وإن نوى اليمين ولم يخطر بباله النذر ، أو نوى النذر واليمين جميعا - كان نذرا ويمينا في قول أبي حنيفة ومحمد ، وعند أبي يوسف يكون يمينا ولا يكون نذرا ، والأصل عند أبي يوسف : لا يتصور أن يكون الكلام الواحد نذرا ويمينا ، بل إذا بقي نذرا لا يكون يمينا ، وإذا صار يمينا لم يبق نذرا وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يجوز أن يكون الكلام الواحد نذرا ويمينا .

( وجه ) قول أبي يوسف أن الصيغة للنذر حقيقة وتحتمل اليمين مجازا لمناسبة بينهما بكون كل واحد منهما سببا لوجوب الكف عن فعل ، أو الإقدام عليه ، فإذا بقيت الحقيقة معتبرة لم يثبت المجاز ، وإذا انقلب مجازا لم تبق الحقيقة ; لأن الكلام الواحد لا يشتمل على الحقيقة والمجاز لما بينهما من التنافي ، إذ الحقيقة من الأسامي ما تقرر في المحل الذي وضع له ، والمجاز ما جاوز محل وضعه وانتقل عنه إلى غيره لضرب مناسبة بينهما ، ولا يتصور أن يكون الشيء الواحد في زمان واحد متقررا في محله ، ومنتقلا عنه إلى غيره .

( ولهما ) أن النذر فيه معنى اليمين ; لأن النذر وضع لإيجاب الفعل مقصودا تعظيما لله تعالى ، وفي اليمين وجوب الفعل المحلوف عليه ، إلا أن اليمين ما وضعت لذلك ، بل لتحقيق الوعد والوعيد ، ووجوب الفعل لضرورة تحقق الوعد والوعيد لا أنه يثبت مقصودا باليمين ، لأنها ما وضعت لذلك ، وإذا كان وجوب الفعل فيها لغيره لم يكن الفعل واجبا في نفسه ، ولهذا تنعقد اليمين في الأفعال كلها ، واجبة كانت أو محظورة أو مباحة .

ولا ينعقد النذر إلا فيما لله - تعالى - من جنسه إيجاب ، ولهذا لم يصح اقتداء الناذر بالناذر لتغاير الواجبين ; لأن صلاة كل واحد منهما وجبت بنذره ، فتتغاير الواجبات ، ولم يصح الاقتداء ، ويصح اقتداء الحالف بالحالف ; لأن المحلوف عليه إذا لم يكن واجبا في نفسه كان في نفسه نفلا كأن اقتدى المتنفل بالمتنفل فصح ، وإذا ثبت أن المنذور واجب في نفسه ، والمحلوف واجب لغيره ، فلا شك أن ما كان واجبا في حق نفسه كان في حق غيره واجبا ، فكان معنى اليمين - وهو الوجوب لغيره - موجودا في النذر ، فكان كل نذر فيه معنى اليمين ، إلا أنه لا يعتبر لوقوع النسبة بوجوبه في حق نفسه عن وجوبه في حق غيره ، فإذا نواه فقد اعتبره فصار نذرا ويمينا .

وبه تبين أن ليس هذا من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد ; لأن المجاز ما جاوز محل الحقيقة إلى غيره لنوع مناسبة بينهما ، وهذا ليس من هذا القبيل بل هو من جعل ما ليس بمعتبر في محل الحقيقة مع وجوده وتقرره معتبرا بالنسبة ، فلم يكن من باب المجاز ، والدليل على أنه يجوز اشتمال لفظ واحد على معنيين مختلفين كالكتابة ، والإعتاق على مال - أن كل واحد منهما يشتمل على معنى اليمين ، ومعنى المعاوضة على ما ذكرنا في كتاب العتاق والمكاتب .

التالي السابق


الخدمات العلمية