بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما الذي يرجع إلى الموقوف فأنواع : ( منها ) أن يكون مما لا ينقل ولا يحول كالعقار ونحوه ، فلا يجوز وقف المنقول مقصودا لما ذكرنا أن التأبيد شرط جوازه ، ووقف المنقول لا يتأبد لكونه على شرف الهلاك ، فلا يجوز وقفه مقصودا إلا إذا كان تبعا للعقار ، بأن وقف ضيعة ببقرها وأكرتها وهم عبيده فيجوز ، كذا قاله أبو يوسف ، وجوازه تبعا لغيره لا يدل على جوازه مقصودا كبيع الشرب ومسيل الماء ، والطريق أنه لا يجوز مقصودا ويجوز تبعا للأرض والدار ، وإن كان شيئا جرت العادة بوقفه ، كوقف المر والقدوم لحفر القبور ، ووقف المرجل لتسخين الماء ، ووقف الجنازة وثيابها .

ولو وقف أشجارا قائمة ، فالقياس أن لا يجوز ; لأنه وقف المنقول ، وفي الاستحسان يجوز لتعامل الناس ذلك ، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، ولا يجوز وقف الكراع والسلاح في سبيل الله تعالى عند أبي حنيفة لأنه منقول وما جرت العادة به ، وعند أبي يوسف ومحمد يجوز ، ويجوز عندهما بيع ما هرم منها ، أو صار بحال لا ينتفع به فيباع ويرد ثمنه في مثله ، كأنهما تركا القياس في الكراع والسلاح بالنص ، وهو ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال { أما خالد فقد احتبس أكراعا وأفراسا في سبيل الله تعالى } ولا حجة لهما في الحديث ; لأنه ليس فيه أنه وقف ذلك فاحتمل قوله : حبسه ، أي أمسكه للجهاد لا للتجارة ( وأما ) وقف الكتب فلا يجوز على أصل أبي حنيفة ( وأما ) على قولهما فقد اختلف المشايخ فيه ، وحكي عن نصر بن يحيى أنه وقف كتبه على الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ( ومنها ) أن يكون الموقوف مقسوما عند محمد فلا يجوز وقف المشاع ، وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط ، ويجوز مقسوما كان أو مشاعا ; لأن التسليم شرط الجواز عند محمد ، والشيوع يخل بالقبض والتسليم ، وعند أبي يوسف التسليم ليس بشرط أصلا ، فلا يكون الخل فيه مانعا ، وقد روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه ملك مائة سهم بخيبر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : { احبس أصلها } فدل على أن الشيوع لا يمنع صحة الوقف ، وجواب محمد رحمه الله يحتمل أنه وقف مائة سهم قبل القسمة ، ويحتمل أنه بعدها ، فلا يكون حجة مع الشك والاحتمال ، على أنه إن ثبت أن الوقف كان قبل القسمة ، فيحمل أنه وقفها شائعا ثم قسم وسلم ، وقد روي أنه فعل كذلك ، وذلك جائز كما لو وهب مشاعا ثم قسم وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية