بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما الذي يرجع إلى المقسوم له فأنواع : ( منها ) أن لا يلحقه ضرر في أحد نوعي القسمة دون النوع الآخر ، وبيان ذلك أن القسمة نوعان : قسمة جبر : وهي التي يتولاها القاضي ، وقسمة رضا : وهي التي يفعلها الشركاء بالتراضي ، وكل واحد منهما على نوعين : قسمة تفريق ، وقسمة جمع .

( أما ) قسمة التفريق فنقول - وبالله تعالى التوفيق : إن الذي تصادفه القسمة لا يخلو من أحد وجهين : ( إما ) أن يكون مما لا ضرر في تبعيضه بالشريكين أصلا بل لهما فيه منفعة .

( وإما ) أن يكون مما في تبعيضه مضرة ، فإن كان مما لا مضرة في تبعيضه أصلا بل فيه منفعة للشريكين ، كالمكيل والموزون والعددي المتقارب ، فتجوز قسمة التفريق فيها قسمة جبر ، كما تجوز فيها قسمة الرضا ; لتحقق ما شرع له القسمة ، وهو تكميل منافع الملك .

وإن كان مما في تبعيضه ضرر فلا يخلو من أحد وجهين : ( إما ) أن يكون فيه ضرر بكل واحد منهما .

( وإما ) أن يكون فيه ضرر بأحدهما نفع في حق الآخر ، فإن كان في تبعيضه ضرر بكل واحد منهما فلا تجوز قسمة الجبر فيه ، وذلك نحو اللؤلؤة الواحدة والياقوتة والزمردة والثوب الواحد والسرج والقوس والمصحف الكريم ، والقباء والجبة والخيمة والحائط والحمام والبيت الصغير والحانوت الصغير والرحى والفرس والجمل والبقرة والشاة ; لأن القسمة في هذه الأشياء قسمة إضرار بالشريكين جميعا ، والقاضي لا يملك الجبر على الإضرار ، وكذلك النهر والقناة والعين والبئر ; لما قلنا فإن كان مع ذلك أرض ; قسمت الأرض وتركت البئر والقناة على الشركة .

( فأما ) إذا كانت أنهار الأرضين متفرقة أو عيونا أو آبارا ; قسمت الآبار والعيون ; لأنه لا ضرر في القسمة ، وكذا الباب والساحة والخشبة إذا كان في قطعهما ضرر فإن كانت الخشبة كبيرة يمكن تعديل القسمة فيها من غير ضرر ; جازت ، وتجوز قسمة الرضا في هذه الأشياء بأن يقتسماها بأنفسهما بتراضيهما ; لأنهما يملكان الإضرار بأنفسهما مع ما أن ذلك لا يخلو عن نوع نفع ، وما لا تجري [ ص: 20 ] فيه القسمة لا يجبر واحد منهما على بيع حصته من صاحبه عند عامة العلماء ، وقال مالك - رحمه الله : إذا اختصما فيه ; باع القاضي وقسم الثمن بينهما .

والصحيح قول العامة ; لأن الجبر على إزالة الملك غير مشروع ، وعلى هذا طريق بين رجلين طلب أحدهما القسمة وأبى الآخر فإن كان يستقيم لكل واحد منهما طريق نافذ بعد القسمة يجبر على القسمة ; لأن القسمة تقع تحصيلا لما شرعت له - وهو تكميل منافع الملك - فيجبر عليها ، وإن كان لا يستقيم لا يجبر على القسمة ; لأنها قسمة إضرار بالشريكين فلا يليها القاضي إلا إذا كان لكل واحد منهما في نصيبه من الدار مفتح من وجه آخر فيقسم أيضا ; لأن القسمة في هذه الصورة لا تقع إضرارا ، ولو اقتسما بأنفسهما جازت لتراضيهما بالضرر ، وكذلك المسيل المشترك إذا طلب أحدهما القسمة وأبى الآخر .

وإن كان بحال لو قسم يصيب كل واحد منهما بعد القسمة قدر ما يسيل ماؤه ، أو كان له موضع آخر يمكنه التسييل فيه يقسم وإن لم يمكن لم يقسم ; لما ذكرنا في الطريق ، وعلى هذا إذا طلب أحدهما مفتح الدار من غير رفع الطريق ، وأبى الآخر إلا برفع الطريق أنه إن كان لكل واحد منهما مفتح آخر يفتحه في نصيبه ; قسم بينهما بغير رفع الطريق ; لأن ما هو المطلوب من القسمة - وهو تكميل منافع الملك في هذه القسمة - أوفر وإن لم يكن رفع بينهما طريقا وقسم الباقي ; لأنه إذا لم يكن بينهما مفتح كانت القسمة بغير طريق تفويتا للمنفعة لا تكميلا لها ، فكانت إضرارا بهما وهذا لا يجوز إلا إذا اقتسما بأنفسهما بغير طريق فيجوز لما قلنا ، ولو اختلفا في سعة الطريق وضيقه جعل الطريق على قدر عرض باب الدار وطوله على أدنى ما يكفيها ; لأن الطريق وضع للاستطراق ، والباب هو الموضوع مدخلا إلى أدنى ما يكفي للاستطراق فيحكم فيه ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

وعلى هذا إذا بنى رجلان في أرض رجل بإذنه ، وطلب أحدهما قسمة البناء وأبى الآخر ، وصاحب الأرض غائب ; لم تقسم ; لأن الأرض المبني عليها بينهما شائع بالإعارة أو بالإجارة ، فلو قسم البناء بينهما لكان لكل واحد منهما سبيل في بعض نصيب صاحبه وفيه ضرر ، فلا يجبر على القسمة ، ولو اقتسما بالتراضي جازت ، وكذا لو هدمها وكانت الآلة بينهما ، وعلى هذا زرع بين رجلين في أرض مملوكة لهما ; طلب أحدهما قسمة الزرع دون الأرض ، فإن كان الزرع قد بلغ وسنبل لا يقسم ; لما ذكرنا من قبل ، ولو طلبا جميعا لا يقسم أيضا ; لأن المانع هو الربا وحرمة الربا لا تحتمل الارتفاع بالرضا ، وإن كان الزرع بقلا فطلب أحدهما لا يقسم أيضا ; لأن الأرض مملوكة لهما على الشركة فلو قسم ; لكان كل واحد منهما بسبيل من القطع وفيه ضرر ولا جبر على الضرر .

ولو اقتسما بأنفسهما وشرطا القطع جازت ; لأنهما رضيا بالضرر ، ولو شرطا الترك لم يجز ; لأن رقبة الأرض مشتركة بينهما فكان شرط الترك منهما في القسمة شرطا لانتفاع كل واحد منهما بملك شريكه ، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع فكان مفسدا للقسمة ; لأن فيها معنى البيع ، وكذلك لو لم تكن الأرض مملوكة لهما ، وكانت في أيديهما بالإعارة أو بالإجارة ، والزرع بقل لا تقسم ; لما ذكرنا ، ولو اقتسما بأنفسهما جازت بشرط القطع ، ولا تجوز بشرط الترك كالبيع على ذكرنا ، وكذلك طلع بين رجلين طلب أحدهما قسمة الطلع دون النخل والأرض لم يقسم ; لما ذكرنا في الزرع ، ولو اقتسما بالتراضي فإن شرطا القطع جاز ، وإن شرطا الترك لم يجز ; لما ذكرنا في الزرع .

ولو تركه بعد القسمة بإذن صاحبه فأدرك وقلع فالفضل له طيب ; لأنه وإن حصل في ملك مشترك لكنه حصل بإذن شريكه فلا يكون خبيثا ، وإن لم يأذن له يتصدق بالفضل ; لتمكن الخبث فيه فكان سبيله التصدق ، هذا إذا كان شيئا في تبعيضه ضرر بكل واحد من الشريكين ، فأما إذا كان شيئا في تبعيضه ضرر بأحدهما دون الآخر ، كالدار المشتركة بين رجلين ولأحدهما فيها شقص قليل فإن طلب صاحب الكثير القسمة قسمتا إجماعا ; لأن القسمة في حقه مفيدة ; لوقوعها محصلة لما شرعت له من تكميل منافع الملك ، وفي حق صاحب القليل تقع منعا له من الانتفاع بنصيبه إذ لا يقدر صاحب القليل على الانتفاع بنصيبه إلا بالانتفاع بنصيب صاحب الكثير ; لقلة نصيبه فكانت القسمة في حقه منعا له من الانتفاع بنصيب شريكه فجازت ، وإن طلب صاحب القليل القسمة فقد ذكر الحاكم الجليل في مختصره أنه يقسم ، وذكر القدوري - رحمه الله - أنه لا يقسم .

( وجه ) ما ذكره الحاكم أنه لا ضرر في هذه القسمة في حق صاحب الكثير ، بل له فيه منفعة فكان في الإباء متعنتا فلا يعتبر إباؤه ، وصاحب القليل قد [ ص: 21 ] رضي بالضرر حيث طلب القسمة فيجبر على القسمة ، كما إذا لم يكن في تبعيضه ضرر بأحدهما أصلا بخلاف الفصل الأول ; لأن هناك تقع القسمة إضرارا بكل واحد منهما ولم يوجد الرضا بالضرر ، والقاضي لا يملك الجبر على الإضرار فهو الفرق .

( وجه ) ما ذكره القدوري - رحمه الله - أن صاحب القليل متعنت في طلب القسمة ; لكون القسمة ضررا محضا في حقه فلا يعتبر طلبه ، وقسمة الجبر لم تشرع بدون الطلب ، ولو اقتسما بأنفسهما جازت ; لما ذكرنا أن صاحب القليل قد رضي بالضرر بنفسه ولا ضرر فيه لصاحب الكثير أصلا فجازت قسمتها .

وعلى هذا دار بين شريكين قسمت بينهما ، فأصاب أحدهما موضع بغير طريق شرط له في القسمة ، فإن كان له فيما أصابه مفتح إلى الطريق جازت القسمة ; لأنه لا مضرة له فيها إذ يمكنه الانتفاع بنصيبه بفتح طريق آخر ، وإن لم يكن له فيما أصابه مفتح أصلا فإن ذكر الحقوق في القسمة ; فله حق الاختيار في نصيب صاحبه ; لأن الطريق من الحقوق فصار مذكورا بذكر الحقوق ، وإن لم يذكر لم تجز القسمة ; لأنها قسمة إضرار في حق أحد الشريكين ، وكذلك إذا قسمت بغير مسيل شرط لأحدهما ، ووقع المسيل في نصيب الآخر ; فهو على التفصيل الذي ذكرنا في الطريق ، ولو اقتسما على أن لا طريق له ، ولا مسيل جازت ; لأنه رضي بالضرر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

وعلى هذا الأصل تخرج قسمة الجمع أنه لا يجبر عليها في جنسين ; لأنها في الأجناس المختلفة تقع إضرارا في حق أحدهما فلا يجبر عليها على ما سنذكر - إن شاء الله تعالى الذي ذكرنا قسمة التفريق .

وأما قسمة الجمع : فهي أن يجمع نصيب كل واحد من الشريكين في عين على حدة ، وأنها جائزة في جنس واحد ولا تجوز في جنسين ; لأنها عند اتحاد الجنس تقع وسيلة إلى ما شرعت له - وهو تكميل منافع الملك - وعند اختلاف الجنس تقع تفويتا للمنفعة لا تكميلا لها إذا عرفت هذا ، فنقول : لا خلاف في الأمثال المتساوية ، وهي المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة من جنس واحد تقسم قسمة جمع ; لأنه يمكن استيفاء ما شرعت له القسمة فيها من غير ضرر ; لانعدام التفاوت ، وكذلك تبر الذهب وتبر النحاس وتبر الحديد ; لما قلنا ، وكذلك الثياب إذا كانت من جنس واحد كالهروية ، وكذلك الإبل والبقر والغنم ; لأن التفاوت عند اتحاد الجنس والمطلوب لا يتفاحش بل يقل .

والتفاوت القليل ملحق بالعدم أو يجبر بالقيمة فيمكن تعديل القسمة فيه ، وكذلك اللآلئ المنفردة ، وكذا اليواقيت المنفردة ; لما قلنا ، وكذا لا خلاف في أنه لا يقسم في جنسين من المكيل والموزون والمزروع والعددي قسمة جمع ، كالحنطة والشعير والقطن والحديد والجوز واللوز والثياب البردية والمروية ، وكذلك اللآلئ واليواقيت ، وكذا الخيل والإبل والبقر والغنم ، وكذا إذا كان من كل جنس فرد كبرذون وجمل وبقرة وشاة وثوب وقباء وجبة وقميص ووسادة وبساط ; لأن هذه الأشياء لو قسمت على الجمع كان لا يخلو من أحد الوجهين : إما أن تقسم باعتبار أعيانها ، وإما أن تقسم باعتبار قيمتها بإن يضم إلى بعضها دراهم أو دنانير لا سبيل إلى الأول ; لأن فيه ضررا بأحدهما لكثرة التفاوت عند اختلاف الجنس ، والقاضي لا يملك الجبر على الضرر ، ولا سبيل إلى الثاني ; لأن ذلك قسمة في غير محلها ; لأن محلها الملك المشترك ولم يوجد في الدراهم .

ولو اقتسما بأنفسهما أو تراضيا على ذلك جازت القسمة ، حتى لو اقتسما ثوبين مختلفي القيمة وزاد مع الأوكس دراهم مسماة جاز ، وكذا في سائر المواضع ، ويكون ذلك قسمة الرضا لا قسمة القضاء ، وكذا الأواني سواء اختلفت أصولها أو اتحدت ; لأنها بالصناعة أخذت حكم جنسين ، حتى جاز بيع الأواني الصغار واحدا باثنين .

وأما الرقيق فلا يقسم عند أبي حنيفة - رحمه الله - قسمة جمع ، وعندهما يقسم .

( وجه ) قولهما أن الرقيق على اختلاف أوصافها وقيمتها جنس واحد فاحتمل القسمة كسائر الحيوانات من الإبل والبقر والغنم ، وما فيها من التفاوت يمكن تعديله بالقيمة .

( وجه ) قول أبي حنيفة أنه لم يوجد شرط جواز القسمة ، وجواز التصرف بدون شرط جوازه محال ، وبيان ذلك على نحو ما ذكرنا أنا لو قسمناها رقا - باعتبار أعيانها - فقد أضررنا بأحدهما لتفاحش التفاوت بين عبد وعبد في المعاني المطلوبة من هذا الجنس ، فكانا في حكم جنسين مختلفين ، ومن شرط جواز هذه القسمة أن لا تتضمن ضررا بالمقسوم عليه ، ولو قسمناها باعتبار القيمة لوقعت القسمة في غير محلها ; لأن محلها الملك المشترك ولا شركة في القيمة ، والمحلية من شرائط صحة التصرف فصح ما ذكرنا ، ولو اقتسما بأنفسهما جاز [ ص: 22 ] لتراضيهما بالضرر ، وكذا لو كان مع الرقيق غيره قسم .

كذا ذكره في كتاب القسمة ; لأنه إن كان لا يحتمل القسمة مقصودا فيجعل تبعا لما يحتملها فيقسم بطريق التبعية ، كالشرب والطريق أنه لا يجوز بيعهما مقصودا ، ثم يدخلان في البيع تبعا للنهر والأرض ، كذا هذا ، وذكر الجصاص أن المذكور في الأصل محمول على قسمة الرضا .

وأما قسمة القضاء فلا تجوز ، وإن كان مع غيره ; لأن غير المقسوم ليس تبعا للمقسوم بل هو أصل بنفسه - بخلاف الشرب والطريق - ، وكذلك الدور عند أبي حنيفة لا تقسم قسمة جمع حتى لو كان بين رجلين داران تقسم كل واحدة على حدتها ، سواء كانتا منفصلتين أو متلاصقتين ، وعندهما ينظر القاضي في ذلك إن كان الأعدل في الجمع جمع ، وإن كان الأعدل في التفريق فرق ، وكذا لو كان بينهما أرضان أو كرمان فهو على الاختلاف .

وأما البيتان فيقسمان قسمة جمع إجماعا متصلين كانا أو منفصلين ، وكذا المنزلان المتصلان .

وأما المنفصلان في دار واحدة فعلى الخلاف .

وجه قولهما أن الدور كلها جنس واحد ، والتفاوت الذي بين الدارين يمكن تعديله بالقيمة فيفوض إلى رأي القاضي إن رأى الأعدل في التفريق فرق ، وإن رأى الأعدل في الجمع جمع ولأبي حنيفة - رحمه الله - على نحو ما ذكرنا في الرقيق أن القسمة فيها باعتبار أعيانها ، ويقع ضرر التفاوت متفاحشا بين دار ودار ; لاختلاف الدور في أنفسها واختلافها باختلاف البناء والبقاع ، فكانا في حكم جنسين مختلفين ، والقسمة فيها باعتبار القيمة تقع تصرفا في غير محله فلا يصح ، ولو اقتسما بأنفسهما أو بالقاضي بتراضيهما جاز ; لما مر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

وأما دار وضيعة أو دار وحانوت فلا تجمع بالإجماع ، بل يقسم كل واحدة على حدة ; لاختلاف الجنس ، ومنها الطلب في أحد نوعي القسمة - وهو قسمة الجبر - حتى أنه لو لم يوجد الطلب من أحد الشركاء أصلا لم تجز القسمة ; لأن القسمة من القاضي تصرف في ملك الغير والتصرف في ملك الغير من غير إذنه محظور في الأصل ، إلا أنه عند طلب البعض يرتفع الحظر ; لأنه إذا طلب علم أنه له في استيفاء هذه الشركة ضررا ، إذ لو كان الطلب لتكميل المنفعة لطلب صاحبه ، وكان عليه أن يمتنع من الإضرار ديانة ، فإذا أبى القسمة ، علم أنه لا يمتنع فيدفع القاضي ضرره بالقسمة ، فكانت القسمة في هذه الصورة من باب دفع الضرر ، والقاضي نصب له ، ونظيره الشفعة ، فإن الشفيع يتملك الدار على المشتري بالشفعة من غير رضا دفعا لضرره ; لأنه لما طلب الشفعة علم أنه يتضرر بجواره فالشرع دفع ضرره عنه بإثبات حق التمليك بالشفعة جبرا عليه ، كذا هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية