بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما صفات القسمة فأنواع : منها أن تكون عادلة غير جائرة وهي أن تقع تعديلا للأنصباء من غير زيادة على القدر المستحق من النصيب ولا نقصان عنه ; لأن القسمة إفراز بعض الأنصباء ، ومبادلة البعض ، ومبنى المبادلات على المراضاة ، فإذا وقعت جائرة ; لم يوجد التراضي ، ولا إفراز نصيبه بكماله ; لبقاء الشركة في البعض فلم تجز وتعاد .

وعلى هذا إذا ظهر الغلط في القسمة المبادلة بالبينة أو بالإقرار تستأنف ; لأنه ظهر أنه لم يستوف حقه ، فظهر أن معنى القسمة لم يتحقق بكماله ، ولو ادعى أحد الشريكين الغلط في القسمة فهذا لا يخلو من أحد وجهين : إما أن كان المدعي أقر باستيفاء حقه ، وإما أن كان لم يقر بذلك ، فإن كان قد أقر باستيفاء حقه لا يسمع منه دعوى الغلط ; لكونه مناقضا في دعواه ; لأن الإقرار باستيفاء الحق إقرار بوصول حقه إليه بكماله ، ودعوى الغلط إخبار أنه لم يصل إليه حقه بكماله فيتناقض ، وإن كان لم يقر باستيفاء حقه ; لا تعاد القسمة بمجرد الدعوى ; لأن القسمة قد صحت من حيث الظاهر فلا يجوز نقضها إلا بحجة ، فإن أقام البينة أعيدت القسمة ; لما قلنا ، وإن لم تقم له بينة وأنكر شريكه ، فأراد استحلافه حلفه على ما ادعى من الغلط ; لأنه يدعي عليه حقا هو جائز الوجود .

والعدم ، وهو ينكر فيحلف ، وبيان ذلك : دار بين رجلين اقتسما ، واستوفى كل واحد منهما حقه ثم ادعى أحدهما غلطا في القسمة لا تعاد القسمة ، ولكن يسأل البينة على الغلط ، فإن أقام البينة وإلا فيحلف شريكه إن شاء ; لما قلنا فإن حلف أحد الشريكين ونكل الآخر ، فإن كان الشركاء ثلاثة يجمع بين نصيب المدعي وبين نصيب الناكل ، فيقسم بينهما على قدر نصيبهما ; لأن نكوله دليل كون المدعي صادقا في دعواه في حقه ، فكان حجة في حقه لا في حق الشريك الحالف ، فلم تصح القسمة في حقهما فتعاد في قدر نصيبهما ، وكذلك لو ادعى الغلط بعد القسمة والقبض في المكيلات والموزونات والمذروعات .

ولو كان بين رجلين داران اقتسماهما ، فأخذ كل واحد منهما دارا ، ثم ادعى أحدهما الغلط في القسمة وأقام البينة على ذلك ، فالقسمة باطلة عند أبي حنيفة - عليه الرحمة - وعندهما لا تبطل ولكن يقضى للمدعي بذلك الذرع من الدار الأخرى ، وبنوا هذه المسألة على بيع ذراع من دار أنه لا يجوز عنده ، وعندهما جائز .

ووجه البناء أن قسمة الجمع في الدور بالتراضي جائزة بلا خلاف ، ومعنى المبادلة وإن كان لازما في نوعي القسمة لكن هذا النوع بالمبادلات أشبه ، وإذا تحققت المبادلة صح البناء ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

ولو اقتسما دارا بينهما ، فأخذ كل واحد منهما طائفة ، ثم ادعى أحدهما بيتا في يد صاحبه أنه وقع في قسمته ، وأقام بينة ; سمعت بينته ، وإن أقاما جميعا البينة ; أخذت بينة المدعي ; لأنه خارج وإن كان قبل الإشهاد والقبض تحالفا وترادا ، وكذا لو اختلفا في الحدود فادعى كل واحد منهما حدا في يد صاحبه أنه أصابه وأقام البينة ; قضي لكل واحد منهما بالحد الذي في يد صاحبه ; لأن كل [ ص: 27 ] واحد منهما عما في يد صاحبه خارج ، وإن قامت لأحدهما بينة يقضى ببينته ، وإن لم تقم لهما بينة تحالفا وهل ينفسخ العقد بنفس التالف أم يحتاج فيه إلى فسخ القاضي ؟ اختلف المشايخ فيه على ما عرف في البيوع .

ولو اقتسم رجلان أقرحة ، فأخذ أحدهما قراحين ، والآخر أربعة ، ثم ادعى صاحب القراحين أن أحد الأقرحة الأربعة أصابه في قسمته ، وأقام البينة قضي له به ; لما قلنا ، وكذلك هذا في أثواب اقتسماها ، فأخذ كل واحد بعضهما ، ثم ادعى أحدهما أن أحد الأثواب الذي في يد صاحبه أصابه في قسمته ، وأقام البينة قضي له به ، ولو ادعى كل واحد منهما على صاحبه ثوبا مما في يده أنه أصابه في قسمته ، وأقام البينة قضي لكل واحد منهما بما في يد الآخر ; لأن كل واحد منهما عما في يد صاحبه خارج .

ولو اقتسما مائة شاة فأصاب أحدهما خمسة وخمسين ، وأصاب الآخر خمسة وأربعين ، ثم ادعى صاحب الأوكس الغلط في القسمة أو الخطأ في التقويم ; لم تقبل منه إلا ببينة .

ولو قال : أخطأنا في العدد ، وأصاب كل واحد منا خمسين - وهذه الخمسة في قسمته - وأنكر الآخر تحالفا ، وإن أقام كل واحد منهما البينة ردت القسمة .

ولو قال أحدهما لصاحبه : أخذت أنت إحدى وخمسين غلطا ، وأخذت أنا تسعة وأربعين ، وقال الآخر : ما أخذت إلا خمسين .

فالقول قوله مع يمينه ; لأنه منكر لاستيفاء الزيادة على حقه ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

وعلى هذا الأصل تخرج قسمة عرصة الدار بالذراع أنه يحسب في القسمة كل ذراعين من العلو بذراع من السفل عند أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف يحسب ذراع من السفل بذراع من العلو ، وعند محمد يحسب على القيمة دون الذرع .

زعم كل واحد منهم أن التعديل فيما يقوله ، والخلاف في هذه المسألة بين أبي حنيفة وبين أبي يوسف مبني على الخلاف في مسألة أخرى ، وهي أن صاحب العلو ليس له أن يبني على العلو من غير رضا صاحب السفل ، وإن لم يضر بصاحب السفل من حيث الظاهر عند أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف له أن يبني إن لم يضر البناء به .

ووجه البناء أن صاحب العلو إذا لم يملك البناء على علوه عند أبي حنيفة - رحمه الله - كان للعلو منفعة واحدة وهي منفعة السكنى فحسب ، وللسفل منفعتان : منفعة السكنى ، ومنفعة البناء عليه ، وكذا السفل كما يصلح للسكنى يصلح لجعل الدواب فيه ، فأما العلو فلا يصلح إلا للسكنى خاصة ، فكان للسفل منفعتان وللعلو منفعة واحدة ، فكانت القسمة عنده على الثلث والثلثين ، وعند أبي يوسف لما ملك صاحب العلو أن يبني على علوه كانت له منفعتان أيضا ، فاستوى العلو والسفل في المنفعة ، فوجب التعديل بالسوية بينهما في الذرع .

وأما محمد فإنما اعتبر القيمة ; لأن أحوال البلاد وأهلها في ذلك مختلفة ، فمنهم من يختار السفل على العلو ومنهم من يختار العلو على السفل ، فكان التعديل في اعتبار القيمة ، والعمل في المسألة على قول محمد - رحمه الله - وهو اختيار الطحاوي - رحمه الله - ويحتمل أن أبا حنيفة إنما فضل السفل على العلو بناء على عادة أهل الكوفة من اختيارهم السفل على العلو ، وأبو يوسف إنما سوى بينهما على عادة أهل بغداد ; لاستواء العلو والسفل عندهم ، فأخرج كل واحد منهما الفتوى على عادة أهل زمانه ، ومحمد بنى الفتوى على المعلوم من اختلاف العادات باختلاف البلدان فكان الخلاف بينهم من حيث الصورة لا من حيث المعنى ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

وبيان ذلك في سفل بين رجلين وعلو من بيت آخر بينهما ، أرادا قسمتهما يقسم البناء على القيمة بلا خلاف .

وأما العرصة فتقسم بالذرع عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وعند محمد بالقيمة ، ثم اختلف أبو حنيفة وأبو يوسف فيما بينهما في كيفية القسمة بالذرع ، فعند أبي حنيفة ذراع بذراعين على الثلث والثلثين ، وعند أبي يوسف ذراع بذراع .

ولو كان بينهما بيت تام علو وسفل ، وعلو من بيت آخر فعند أبي حنيفة يحسب في القسمة كل ذراع من العلو والسفل بثلاثة أذرع من العلو أرباعا عنده ; لما ذكرنا من الأصل فكانت القسمة أرباعا ، وعند أبي يوسف ذراع من السفل والعلو بذراعين من العلو ; لاستواء السفل والعلو عنده ، فكانت القسمة أثلاثا .

ولو كان بينهما بيت تام سفل وعلو ، وسفل آخر فعند أبي حنيفة يحسب في القسمة كل ذراع من السفل والعلو بذراع ونصف من السفل ، وذراع من سفل البيت بذراع من السفل الآخر ، وذراع من علوه بنصف ذراع من السفل الآخر ، وعند أبي يوسف ذراع من التام بذراعين من السفل ، - والله - تعالى - أعلم .

وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا اقتسما دارا وفضلا بعضها على بعض بالدراهم أو الدنانير [ ص: 28 ] لفضل قيمة البناء والموضع أن القسمة جائزة ; لأنها وقعت عادلة من حيث المعنى ; لأن الدار قد يفضل بعضها على بعض بالبناء والموضع ، فكان ذلك تفصيلا من حيث الصورة تعديلا من حيث المعنى ، ولو لم يسميا قيمة فضل البناء وقت القسمة جازت القسمة استحسانا ، وتجب قيمة فضل البناء ، وإن لم يسمياها في القسمة ، والقياس أن لا تجوز القسمة ; لأن هذه قسمة بعض الدار دون بعض ; لأن العرصة مع البناء بمنزلة شيء واحد ، وقسمة البناء بالقيمة فإذا وجدت القسمة مجهولة فوقعت القسمة للعرصة دون البناء ; بقيت وإنها غير جائزة .

وجه الاستحسان أن قسمة العرصة قد صحت بوقوعها في محلها - وهو الملك - ولا صحة لها إلا بقسمة البناء ، وذلك بالقيمة ، فتجب على صاحب الفضل قيمة فضل البناء ، وإن لم يسم ضرورة صحة القسمة ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

وعلى هذا الأصل تخرج أيضا قسمة الجمع في الأجناس المختلفة أنها غير جائزة جبرا بالإجماع ; لتعذر تعديل الأنصباء إلا بالقيمة ، وإنها ليست محل القسمة على ما مر ، ولا يجوز في الرقيق والدور عند أبي حنيفة - رحمه الله - ; لأنها في حكم الأجناس المختلفة ، ولا تقع القسمة فيها عادلة أو جائرة ، ولا تقسم الأولاد في بطون الغنم ; لتعذر التعديل ، وعلى هذا يخرج رد المقسوم بالعيب في نوعي القسمة ; لأنه إذا ظهر به عيب فقد ظهر أنها وقعت جائرة لا عادلة ، فكان له حق الرد بالعيب كما في البيع ، ولو امتنع الرد بالعيب ; لوجود المانع منه يرجع بالنقصان كما في البيع ، إلا أن في البيع يرجع بتمام النقصان وفي القسمة يرجع بالنصف ; لأن النقصان في القسمة يرجع بالنصيبين جميعا فيرجع بنصف النقصان من نصيب شريكه .

وأما الرد بخيار الرؤية والشرط فيثبت في قسمة الرضا ; لأن القسمة فيها معنى المبادلة ، وهذا النوع أشبه بالمبادلات ; لوجود المراضاة من الجانبين فيثبت فيه خيار الرؤية كما في البيع ، ولا يثبت في قسمة القضاء لا لخلوها عن المبادلة بل لعدم الفائدة ; لأنه لو ردها بخيار الرؤية والشرط ; لأجبره القاضي ثانيا فلا يفيد ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

ولا تجب الشفعة في القسمة ; لأن حق الشفعة يتبع المبادلة المحضة ; لثبوتها على مخالفة القياس ، والقسمة مبادلة من وجه فلا تحتمل الشفعة ; ولأنها لو وجبت لا يخلو إما أن تجب للشريك أو للجار ، لا سبيل إلى الأول ; لأن الشفعة تجب لغير البائع والمشتري ، ولا سبيل إلى الثاني ; لأن الشريك أولى من الجار ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

ومنها الوجوب عند الطلب ، حتى يجبر على القسمة فيما ينتفع كل واحد من الشريكين بقسمته ، وكذا فيما ينتفع بها أحدهما ويستضر الآخر عند طلب المنتفع بالإجماع ، وعند طلب المستضر اختلاف روايتي الحاكم ، والقدوري - رحمهما الله - وقد ذكرناه ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

ومنها اللزوم بعد تمامها في النوعين جميعا ، حتى لا يحتمل الرجوع عنها إذا تمت .

وأما قبل التمام فكذلك في أحد نوعي القسمة ، وهو قسمة القضاء دون النوع الآخر ، وهو قسمة الشركاء ، بيان ذلك : أن الدار إذا كانت مشتركة بين قوم فقسمها القاضي أو الشركاء بالتراضي فخرجت السهام كلها بالقرعة ; لا يجوز لهم الرجوع ، وكذا إذا خرج الكل إلا سهم واحد ; لأن ذلك خروج السهام كلها ; لكون ذلك السهم متعينا بمن بقي من الشركاء ، وإن خرج بعض السهام دون البعض فكذلك في قسمة القضاء ; لأنه لو رجع أحدهم لأجبره القاضي على القسمة ثانيا فلا يفيد رجوعه .

وأما في قسمة التراضي فيجوز الرجوع ; لأن قسمة التراضي لا تتم إلا بعد خروج السهام كلها ، وكل عاقد بسبيل من الرجوع عن العقد قبل تمامه كما في البيع ونحوه ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية