بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) الذي يخص البعض دون البعض فمنها : عدد الأربع في حد الزنا خاصة ، وهو أن يقر أربع مرات ، وهذا عندنا ، وعند الشافعي - عليه الرحمة - ليس بشرط ، ويكتفى بإقراره مرة واحدة .

( وجه ) قوله أن الإقرار إنما صار حجة في الشرع لرجحان جانب الصدق فيه على جانب الكذب ، وهو المعنى عند التكرار والتوحد سواء ; لأن الإقرار إخبار والخبر لا يزيد رجحانا بالتكرار ، ولهذا لم يشترط في سائر الحدود ، بخلاف عدد المثنى في الشهادة ; لأن ذلك يوجب زيادة ظن عليه فيها ، إلا أن شرط العدد الأربع في باب الزنا تعبد فيقتصر على موضع التعبد .

( ولنا ) أن القياس ما قاله ، إلا أنا تركنا القياس بالنص وهو ما روي { أن ماعزا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر بالزنا فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام بوجهه الكريم ، هكذا إلى الأربع ، فلو كان الإقرار مرة مظهرا للحد لما أخره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأربع } ; لأن الحد بعد ما ظهر وجوبه للإمام لا يحتمل التأخير .

( وأما ) العدد في الإقرار بالقذف فليس بشرط بالإجماع ، وهل يشترط في الإقرار بالسرقة والشرب والسكر ؟ قال أبو حنيفة - رحمه الله : ليس بشرط .

وقال أبو يوسف - رحمه الله : إنه كلما يسقط بالرجوع فعدد الإقرار فيه كعدد الشهود وذكر الفقيه أبو الليث - رحمه الله : إن عند أبي يوسف يشترط الإقرار مرتين في مكانين .

( وجه ) قوله أن حد السرقة والشرب والسكر خالص حق الله - تعالى - كحد الزنا ، فتلزم مراعاة الاحتياط فيه باشتراط العدد كما في الزنا ، إلا أنه يكتفى ههنا بالمرتين ، ويشترط الأربع هناك استدلالا بالبينة ; لأن السرقة والشرب كل واحد منهما يثبت بنصف ما يثبت به الزنا ; وهو شهادة شاهدين ، فكذلك الإقرار ، ولهما أن الأصل أن لا يشترط التكرار في الإقرار ; لما ذكرنا أنه إخبار والمخبر لا يزداد بتكرار الخبر ، وإنما عرفنا عدد الأربع في باب الزنا بنص غير معقول المعنى ; فيقتصر على مورد النص ، ومنها عدد المجالس فيه ، وهو أن يقر أربع مجالس ، واختلف المشايخ في أنه يعتبر مجالس القاضي أو مجالس المقر ، والصحيح أنه يعتبر مجالس المقر ، وهكذا روي عن أبي حنيفة أنه يعتبر مجالس المقر ; لأنه عليه الصلاة والسلام اعتبر اختلاف مجالس ماعز ، حيث كان يخرج من المسجد في كل مرة ، ثم يعود ومجلسه عليه الصلاة والسلام لم يختلف ، وقد روي عن أبي حنيفة في تفسير اختلاف مجالس المقر : هو أن يقر مرة ، ثم يذهب حتى يتوارى عن بصر القاضي ، ثم يجيء فيقر ثم يذهب ، هكذا أربع مرات ، ومنها أن يكون إقراره بين يدي الإمام فإن كان عند غيره - لم يجز إقراره ; لأن إقرار ماعز كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولو أقر في غير مجلس القاضي وشهد الشهود على إقراره لا تقبل شهادتهم ; لأنه إن كان مقرا فالشهادة لغو ; لأن الحكم للإقرار لا للشهادة ، وإن كان منكرا فالإنكار منه رجوع ، والرجوع عن الإقرار في الحدود الخالصة حقا لله - عز وجل - صحيح ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

ومنها الصحة في الإقرار بالزنا والسرقة والشرب والسكر حتى لو كان سكران - لا يصح إقراره ، أما على أصل أبي حنيفة - رحمه الله - فلأن السكران : من صار بالشرب إلى حال لا يعقل قليلا ولا كثيرا فكان عقله زائلا مستورا حقيقة .

وأما على أصلهما ; فلأنه إذا غلب الهذيان على كلامه ; فقد ذهبت منفعة العقل ، ولهذا لم تصح ردته فيورث ذلك شبهة في وجوب الحد ، وليس بشرط في الإقرار بالحدود والقصاص ; لأن القصاص خالص حق العبد ، وللعبد حق في حد القذف ; فيصح مع السكر كالإقرار بالمال وسائر التصرفات ، وإذا صحا فإن دام على إقراره - تقام عليه الحدود كلها ، وإن أنكره فالإنكار منه رجوع فيصح في الحدود الخالصة وهو حد الزنا والشرب والسرقة في حق القطع ، ولا يصح في القذف والقتل العمد ، والله - تعالى - أعلم .

ومنها : أن يكون الإقرار بالزنا ممن يتصور وجود الزنا منه ، فإن كان لا يتصور كالمجبوب - لم يصح إقراره ; لأن الزنا لا يتصور منه ; لانعدام [ ص: 51 ] الآلة ، ويصح إقرار الخصي والعنين لتصور الزنا منهما ; لتحقق الآلة ، والذي يجن ويفيق إذا أقر في حال إفاقته - فهو مثل الصحيح ; لأنه في حال إفاقته صحيح ، ومنها : أن يكون المزني به في الإقرار بالزنا ممن يقدر على دعوى الشبهة ، فإن لم يكن بأن أقر رجل أنه زنى بامرأة خرساء أو أقرت امرأة أنها زنت بأخرس - لم يصح إقراره ; لأن من الجائز أنه لو كان يقدر على النطق ; لادعى النكاح أو أنكر الزنا ولم يدع شيئا فيندرئ عنه الحد ; لما نذكر في موضعه - إن شاء الله تعالى .

وأما حضرة المزني بها في الإقرار بالزنا والشهادة عليه فليست بشرط ، حتى لو أقر أنه زنى بامرأة غائبة أو شهد عليه الشهود بالزنا بامرأة غائبة - صح الإقرار وقبلت الشهادة ويقام الحد على الرجل ; لأن الغائب بالغيبة ليس إلا الدعوى وإنها ليست بشرط ; ولهذا رجم ماعز من غير شرط حضور تلك المرأة ، وكذلك العلم بالمزني بها ثم إذا صح إقراره بالزنا بامرأة غائبة يعرفها ، فحضرت المرأة فلا يخلو إما أن حضرت قبل إقامة الحد على الرجل ، وإما أن حضرت بعد الإقامة ، فإن حضرت بعد الإقامة ، فإن أقرت بمثل ما أقر به الرجل - تحد أيضا كما حد الرجل ، وإن أنكرت وادعت على الرجل حد القذف - لا يحد الرجل حد القذف ; لأنه لا يجب عليه حدان ، وقد أقيم أحدهما فلا يقام الآخر .

وإن حضرت قبل إقامة الحد على الرجل فإن أنكرت الزنا وادعت النكاح أو لم تدع ، وادعت حد القذف على الرجل أو لم تدع فحكمه نذكره في موضعه - إن شاء الله تعالى ، والعلم بالمزني بها ليس بشرط لصحة الإقرار ، حتى لو قال : زنيت بامرأة ولا أعرفها - صح إقراره ويحد والعلم بالمشهود به شرط صحة الشهادة ، حتى لو شهد الشهود على رجل أنه زنى بامرأة وقالوا : لا نعرفها - لا تقبل شهادتهم ولا يقام الحد على المشهود عليه ، والفرق أن المقر في الإقرار على نفسه يبني الأمر على حقيقة الحال - خصوصا في الزنا ، فكان إقراره إخبارا عن وجود الزنا منه حقيقة ، إلا أنه لم يعرف اسم المرأة ونسبها وذا لا يورث شبهة ، فأما الشاهد فإنه بشهادته بنى الأمر على الظاهر لا على الحقيقة ; لقصور علمه عن الوصول إلى الحقيقة ، فقولهم : لا نعرف تلك المرأة يورث شبهة ; لجواز أنها امرأته أو امرأة له فيها شبهة حل أو ملك ، فهو الفرق ، والله - تعالى - أعلم .

وأما عدم التقادم فهل هو شرط لصحة الإقرار بالحد ؟ أما في حد القذف فليس بشرط ; لأنه ليس بشرط لقبول الشهادة ، فأولى أن لا يكون شرطا لصحة الإقرار ، وكذلك في حد الزنا عند أصحابنا الثلاثة ، وعند زفر - رحمه الله - كما في الشهادة .

( ولنا ) الفرق بين الإقرار والشهادة ، وهو أن المانع في الشهادة تمكن التهمة والضغينة ، وهذا لا يوجد في الإقرار ; لأن الإنسان غير متهم في الإقرار على نفسه وكذا في حد السرقة ; لما قلنا .

وأما في حد الشرب فشرط عندهما ، وعند محمد - رحمه الله - ليس بشرط ; بناء على أن قيام الرائحة شرط صحة الإقرار والشهادة عندهما ، ولهذا لا يبقى مع التقادم ، وعنده ليس بشرط ولو لم يتقادم العهد ، ولكن ريحها لا يوجد منه - لم يصح الإقرار عندهما ، خلافا له .

( وجه ) قول محمد - رحمه الله - أن حد الشرب ليس بمنصوص عليه في الكتاب والسنة ، وإنما عرف بإجماع الصحابة ، وإجماعهم لا ينعقد بدون عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ولم يثبت فتواه عند زوال الرائحة ، فإنه روي أن رجلا جاء بابن أخ له إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاعترف عنده بشرب الخمر ، فقال له عبد الله : بئس ولي اليتيم أنت ، لا أدبته صغيرا ولا سترت عليه كبيرا ، ثم قال رضي الله عنه : تلتلوه ومزمزوه واستنكهوه ، فإن وجدتم رائحة الخمر - فاجلدوه ، وأفتى رضي الله عنه بالحد عند وجود الرائحة .

ولم يثبت فتواه عند عدمها ، وإذا لم يثبت فلا ينعقد الإجماع بدونه ، فلا يجب بدونه ; لأن وجوبه بالإجماع ، ولا إجماع ، ثم إنما تعتبر الرائحة إذا لم يكن سكران ، فأما إذا كان سكرانا - فلا ; لأن السكر أدل على الشرب من الرائحة ، ولذلك لو جيء به من مكان بعيد لا تبقى الرائحة بالمجيء من مثله عادة - يحد ، وإن لم توجد الرائحة للحال ; لأن هذا موضع العذر فلا يعتبر قيام الرائحة فيه ، والله - تعالى - أعلم .

وإذا أقر إنسان بالزنا عند القاضي ; ينبغي أن يظهر الكراهة أو يطرده ، وكذا في المرة الثانية والثالثة هكذا فعل عليه الصلاة والسلام بماعز ، وكذا روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال : " اطردوا المعترفين " .

أي بالزنا ، فإذا أقر أربعا نظر في حاله أهو صحيح العقل أم به آفة ؟ هكذا قال عليه الصلاة والسلام لماعز أبك خبل أم بك جنون ؟ وبعث إلى قومه فسألهم عن حاله .

فإذا عرف أنه صحيح العقل سأله عن ماهية الزنا وعن كيفيته وعن مكانه وعن المزني بها ; لما ذكرنا في الشهادة ، [ ص: 52 ] ولا يسأله عن الزمان ; لأن السؤال عن الزمان لمكان احتمال التقادم ، والتقادم في الإقرار ، وإنما يقدح في الشهادة ويجوز أن يسأل عن الزمان أيضا ; لاحتمال أنه زنى في حال الصغر ، فإذا بين ذلك كله - سأله عن حاله أهو محصن أم لا ؟ لأن حكم الزنا يختلف بالإحصان وعدمه ، فإن قال : أنا محصن - سأله عن ماهية الإحصان أنه ما هو ؟ لأنه عبارة عن اجتماع شرائط لا يقدر عليها كل أحد فإذا بين رجمه .

وأما علم القاضي فلا يظهر به حد الزنا والشرب والسكر والسرقة ; حتى لا يقضي بشيء من ذلك بعلمه ، لكنه يقضي بالمال في السرقة ; لأن القاضي يقضي بعلمه في الأموال ، سواء علم بذلك قبل زمان القضاء ومكانه أو بعدهما بلا خلاف بين أصحابنا ، وسواء علم بذلك معاينة بأن رأى إنسانا يزني ويشرب ويسرق ، أو بسماع الإقرار به في غير مجلسه الذي يقضي فيه بين الناس ، فإن كان إقراره في مجلس القضاء - لزمه موجب إقراره ، إذ لو لم يقبل إقراره - لاحتاج القاضي إلى أن يكون معه جماعة على الإقرار في كل حادثة ، وإجماع الأمة بخلافه ، والله - تعالى - أعلم .

ويظهر به حد القذف في زمان القضاء ومكانه كالقصاص وسائر الحقوق والأموال بلا خلاف بين أصحابنا ، وإنما اختلفوا في ظهور ذلك بعلمه في غير زمان القضاء ومكانه ، وقد ذكرنا جملة ذلك بدلائله في كتاب آداب القاضي ، ولا يظهر حد السرقة بالنكول ، لكنه يقضي بالمال ; لأن النكول إما بدل ، وإما إقرار فيه شبهة العدم ، والحد لا يحتمل البدل ولا يثبت بالشبهة ، والمال يحتمل البدل والثبوت بالشبهة .

وأما الخصومة فهل هي شرط ثبوت الحد بالشهادة والإقرار ؟ فلا خلاف في أنها ليست بشرط في حد الزنا والشرب ; لأنه خالص حق الله - عز وجل - والخصومة ليست بشرط في الحدود الخالصة لله تعالى ; لأنها تقام حسبة لله - تعالى - فلا يتوقف ظهورها على دعوى العبد .

ولا خلاف في حد السرقة أن الخصومة فيها شرط الظهور بالشهادة ; لأن حد السرقة وإن كان حق الله تعالى خالصا ، لكن هذا الحق لا يثبت إلا بعد كون المسروق ملكا للمسروق منه ، ولا يظهر ذلك إلا بالخصومة ، وفي كونها شرط الظهور بالإقرار خلاف ذكرناه في كتاب السرقة ، ولا خلاف أيضا في أنها شرط الظهور بالشهادة على القذف والإقرار به ، أما على أصل الشافعي - رحمه الله - فلأنه خالص حق العبد ، فيشترط فيه الدعوى كما في سائر حقوق العباد ، وعندنا حق الله تعالى عز شأنه - وإن كان هو المغلب فيه ، لكن للعبد فيه حق ; لأنه ينتفع به بصيانة عرضه عن الهتك ، فيشترط فيه الدعوى عن هذه الجهة وإذا عرف أن الخصومة في حد القذف شرط كون النية والإقرار مظهرين فيه فيقع الكلام في موضعين : أحدهما - في بيان الأحكام التي تتعلق بالدعوى والخصومة ، والثاني - في بيان من يملك الخصومة ومن لا يملكها ، أما الأول - فنقول - ولا قوة إلا بالله تعالى : الأفضل للمقذوف أن يترك الخصومة ; لأن فيها إشاعة الفاحشة وهو مندوب إلى تركها ، وكذا العفو عن الخصومة والمطالبة التي هي حقها من باب الفضل والكرامة .

وقد قال الله تعالى { وأن تعفو أقرب للتقوى } ، وقال سبحانه وتعالى { ولا تنسوا الفضل بينكم } ، وإذا رفع إلى القاضي يستحسن للقاضي أن يقول قبل الإتيان بالبينة : أعرض عن هذا ; لأنه ندب إلى الستر والعفو ، وكل ذلك حسن ، فإذا لم يترك الخصومة ، وادعى القذف على القاذف ، فأنكر ولا بينة للمدعي فأراد استحلافه بالله تعالى ما قذفه ، هل يحلف ؟ ذكر الكرخي - عليه الرحمة - أنه لا يحلف عند أصحابنا ، خلافا للشافعي - رحمه الله - وذكر في آداب القاضي أنه يحلف في ظاهر الرواية عندهم ، وإذا نكل - يقضي عليه بالحد ، وقال بعضهم : يحتمل أن يحلف ، فإذا نكل يقضي عليه بالتعزير لا بالحد .

وهذه الأقاويل ترجع إلى أصل وهو أن عند الشافعي - رحمه الله - حد القذف خالص حق العبد ، فيجري فيه الاستحلاف كما في سائر حقوق العباد .

وأما على أصل أصحابنا ففيه حق الله تعالى - عز وجل - وحق العبد فمن قال منهم : إنه يحلف ويقضي بالحد عند النكول اعتبر ما فيه من حق العبد فألحقه في التحليف بالتعزير ، ومن قال منهم : إنه لا يحلف أصلا اعتبر حق الله سبحانه وتعالى فيه ; لأنه المغلب ، فألحقه بسائر حقوق الله - سبحانه وتعالى - الخالصة ، والجامع أن المقصود من الاستحلاف هو النكول ، وأنه على أصل أبي حنيفة عليه الرحمة بدل ، والحد لا يحتمل البدل ، وعلى أصلهما إقرار فيه شبهة العدم ; لأنه ليس بصريح إقرار ، بل هو إقرار بطريق السكوت ، فكان فيه شبهة العدم ، والحد لا يثبت بدليل فيه شبهة العدم ، ومن قال منهم .

إنه يحلف ويقضي عليه بالتعزير عند النكول [ ص: 53 ] دون الحد ، اعتبر حق العبد فيه للاستحلاف كالتعزير واعتبر حق الله سبحانه وتعالى للمنع من إقامة الحد عند النكول كسائر الحدود ، ومثل هذا جائز كحد السرقة أنه يجري فيه الاستحلاف ، ولا يقضي عند النكول بالحد ، ولكن يقضي بالمال ، وكما قال أبو يوسف ومحمد - عليهما الرحمة - في القصاص في الطرف والنفس : إنه يحلف ، وعند النكول لا يقضي بالقصاص بل بالدية على ما عرف ، وإن قال المدعي : لي بينة حاضرة في المصر على قذفه - يحبس المدعى عليه القذف إلى قيام الحاكم من مجلسه .

والمراد من الحبس الملازمة أي يقال للمدعي : لازمه إلى هذا الوقت ، فإن أحضر البينة فيه وإلا خلي سبيله ، ولا يؤخذ منه كفيل بنفسه ، هذا قول أبي حنيفة - رحمه الله - وعندهما يؤخذ منه الكفيل ، وهذا بناء على أن الكفالة في الحدود غير جائزة عند أبي حنيفة - رحمه الله - حيث قال في الكتاب : ولا كفالة في حد ولا قصاص ، وعندهما يكفل ثلاثة أيام ، وذكر الجصاص في تفسير قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن معناه لا يؤخذ الكفيل في الحدود والقصاص جبرا ، فأما إذا بذل من نفسه وأعطى الكفيل - فهو جائز بالإجماع ، وظاهر إطلاق الكتاب يدل على عدم الجواز عنده ; لأن كلمة النفي إذا دخلت على الأفعال الشرعية ; يراد بها نفي الجواز من الأصل كما في قوله عليه الصلاة والسلام { لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بشهود } ونحو ذلك .

( وجه ) قولهما أن الحبس جائز في الحدود ، فالكفالة أولى ; لأن معنى الوثيقة في الحبس أبلغ منه في الكفالة ، فلما جاز الحبس فالكفالة أحق بالجواز ، ولأبي حنيفة رحمه الله أن الكفالة شرعت للاستيثاق ، والحدود مبناها على الدرء والإسقاط ، قال عليه الصلاة والسلام : { ادرءوا الحدود ما استطعتم } .

فلا يناسبها الاستيثاق بالكفالة ، بخلاف الحبس فإن الحبس للتهمة مشروع ، روي { أنه عليه الصلاة والسلام حبس رجلا بالتهمة } وقد ثبتت التهمة في هذه المسألة بقوله : لي بينة حاضرة في المصر ، فجاز الحبس فإذا أقام المدعي شاهدين لا يعرفهما القاضي - أي لم تظهر عدالتهما بعد الحبس - فلا خلاف ، ولا يؤخذ منه كفيل ، وإن أقام شاهدا واحدا عدلا حبس عند أبي حنيفة - رحمه الله ، وعندهما لا يحبس ويؤخذ منه كفيل .

( وجه ) قولهما أن الحق لا يظهر بقول الواحد وإن كان عدلا ، فالحبس من أين بخلاف الشاهدين ؟ فإن سبب ظهور الحق قد وجد وهو كمال عدد الحجة ، إلا أن توقف الظهور لتوقف ظهور العدالة فثبتت الشبهة ; فيحبس .

( وجه ) قول أبي حنيفة - رحمه الله - أن قول الشاهد الواحد وإن كان لا يوجب الحق فإنه يوجب التهمة ، وحبس المتهم جائز ، ولو قال المدعي : لا بينة لي أو بينتي غائبة أو خارج المصر - لا يحبس بالإجماع ; لعدم التهمة ، فإن قامت البينة للمقذوف على القذف ، أو أقر القاذف به فإن القاضي يقول له : أقم البينة على صحة قذفك .

فإن أقام أربعة من الشهود على معاينة الزنا من المقذوف أو على إقراره بالزنا - سقط الحد عن القاذف ، ويقام حد الزنا على المقذوف ، وإن عجز عن إقامة البينة - يقيم حد القذف على القاذف ; لقوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } وإن طلب التأجيل من القاضي ، وقال : شهودي غيب ، أو خارج المصر - لم يؤجله ، ولو قال : شهودي في المصر أجله إلى آخر المجلس ، ولازمه المقذوف ، ويقال له : ابعث أحدا إلى شهودك فأحضرهم ، ولا يؤخذ منه كفيل بنفسه في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما يؤجل يومين أو ثلاثة ، ويؤخذ منه الكفيل .

( وجه ) قولهما أنه يحتمل أن يكون صادقا في إخباره أن له بينة في المصر ، وربما لا يمكنه الإحضار في ذلك الوقت فيحتاج إلى التأخير إلى المجلس الثاني وأخذ الكفيل ; لئلا يفوت حقه عسى ، ولأبي حنيفة - رحمه الله - أن في التأجيل إلى آخر المجلس الثاني منعا من استيفاء الحد بعد ظهوره ، وهذا لا يجوز ، بخلاف التأخير إلى آخر المجلس ; لأن ذلك القدر لا يعد تأجيلا ولا منعا من استيفاء الحد بعد ظهوره .

وروي عن محمد - رحمه الله - أنه إذا ادعى أن له بينة حاضرة في المصر ولم يجد أحدا يبعثه إلى الشهود ، فإن القاضي يبعث معه من الشرط من يحفظه ولا يتركه حتى يقر ، فإن لم يجد - ضرب الحد ، ولو ضرب بعض الحد ثم أقام القاذف البينة على صدق مقالته - قبلت بينته وسقطت بينة الجلدات ، ولا تبطل شهادته ويقام حد الزنا على المقذوف ، كما لو أقامها قبل أن يضرب الحد أصلا ولو ضرب الحد بتمامه ، ثم أقام البينة على زنا المقذوف قبلت بينته ويظهر أثر القبول في جواز شهادة القاذف ، وأن لا يصير مردود الشهادة ; لأنه تبين أنه لم يكن [ ص: 54 ] محدودا في القذف حقيقة ، حيث تبين أن المقذوف لم يكن محصنا ; لأن من شرائط الإحصان العفة عن الزنا ، وقد ظهر زناه بشهادة الشهود ; فلم يصر القاذف مردود الشهادة ، ولا يظهر أثر قبول هذه الشهادة في إقامة حد الزنا على المقذوف ; لأن معنى القذف قد تقرر بإقامة الحد على القاذف .

ولو قذف رجلا فقال : يا ابن الزانية ، ثم ادعى القاذف أن أم المقذوف أمة أو نصرانية ، والمقذوف يقول : هي حرة مسلمة - فالقول قول القاذف ، وعلى المقذوف إقامة البينة على الحرية والإسلام ، .

التالي السابق


الخدمات العلمية