بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وكذلك لو قذف إنسانا في نفسه ، ثم ادعى القاذف أن المقذوف عبد - فالقول قول القاذف ، وكذلك لو قال القاذف : أنا عبد وعلي حد العبد ، وقال المقذوف : أنت حر - فالقول قول القاذف ; لأن الظاهر وإن كان هو الحرية والإسلام ; لأن دار الإسلام دار الأحرار ، لكن الظاهر لا يصلح للإلزام على الغير ، فلا بد من الإتيان بالبينة .

وروي عن أبي يوسف فيمن قذف أم رجل فإن كان القاضي يعرف أمه حرة مسلمة - جلد القاذف ; لأن الحرية والإسلام يثبتان بالبينة فعلم القاضي أولى ; لأنه فوق البينة ; لأن الحرية والإسلام من شرائط الإحصان ، والإحصان شرط الوجوب والقاضي يقضي بعلمه بسبب وجوب هذا الحد ; فلأن يقضي بعلمه بشرط الوجوب أولى ، فإن لم يعلم القاضي - حبسه في السجن حتى يأتي بالبينة ; لأنه ظهر منه القذف ، وأنه يوجب العقوبة سواء كان المقذوف أمه حرة أو أمة ، فجاز أن يستوثق منه بالحبس ، وإن لم تقم بينته - أخذ منه كفيلا أو أخرجه وأخذ الكفيل على مذهبه ، فأما على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه فلا يؤخذ الكفيل على ما بينا ولا يعزره ; لأن التعزير من القاضي حكم بإبطال إحصان المقذوف ; لأن قذف المحصن يوجب الحد لا التعزير ، ولا يجوز الحكم بإبطال الإحصان ، ولو شهد شاهدان على القذف واختلفا في مكان القذف أو زمانه بأن شهد أحدهما أنه قذف في مكان كذا ، وشهد الآخر أنه قذف في مكان آخر ، أو شهد أحدهما أنه قذف يوم الخميس ، وشهد الآخر أنه قذف يوم الجمعة - قبلت شهادتهما ، ووجب الحد عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما لا تقبل .

( وجه ) قولهما أنهما شهدا بقذفين مختلفين ; لأن القذف في هذا المكان والزمان يخالف القذف في مكان آخر وزمان آخر ، فقد شهد كل واحد منهما بقذف غير القذف الذي شهد به الآخر ، وليس على أحدهما شهادة شاهدين فلا يثبت ، ولأبي حنيفة - رحمه الله - أن اختلاف مكان القذف وزمانه لا يوجب اختلاف القذف ; لجواز أنه كرر القذف الواحد في مكانين وزمانين ; لأن القذف من باب الكلام والكلام مما يحتمل التكرار والإعادة ، والمعاد عين الأول حكما ، وإن كان غيره حقيقة فكان القذف واحدا ، فقد اجتمع عليه شهادة شاهدين ، وإن اتفقا في المكان والزمان واختلفا في الإنشاء والإقرار ، بأن شهد أحدهما أنه قذفه في هذا المكان يوم الجمعة ، وشهد الآخر أنه قذفه في هذا المكان يوم الجمعة - لا تقبل ولا حد عليه في قولهم جميعا استحسانا والقياس أن تقبل ويحد .

( وجه ) القياس أن اختلاف كلامهما في الإنشاء والإقرار لا يوجب اختلاف القذف ، كما إذا شهد أحدهما بإنشاء البيع والآخر بالإقرار به - أنه تقبل شهادتهما ، كذا هذا .

( وجه ) الاستحسان أن الإنشاء مع الإقرار أمران مختلفان حقيقة ; لأن الإنشاء إثبات أمر لم يكن ، والإقرار إخبار عن أمر كان ، فكانا مختلفين حقيقة فكان المشهود به مختلفا ، وليس على أحدهما شاهدان فلا تقبل .

ونظيره من قال لامرأته : زنيت قبل أن أتزوجك - فعليه اللعان لا الحد ، ولو قال لها : قذفتك بالزنا قبل أن أتزوجك - فعليه الحد لا اللعان ; لأن قوله زنيت إنشاء القذف فكان قاذفا لها للحال ، وهي للحال زوجته ، وقذف الزوج يوجب اللعان لا الحد ، وقوله : قذفتك بالزنا ، إقرار منه بقذف كان منه قبل التزوج ، وهي كانت أجنبية قبل التزوج ، وقذف الأجنبية ; يوجب الحد لا اللعان ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية