بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) .

وأما بيان أحكام البغاة فالكلام فيه في مواضع : في تفسير البغاة ، وفي بيان ما يلزم إمام أهل العدل عند خروجهم عليه ، وفي بيان ما يصنع بهم وبأموالهم عند الظفر بهم والاستيلاء على أموالهم ، وفي بيان من يجوز قتله منهم ، ومن لا يجوز ، وفي بيان حكم إصابة الدماء والأموال من الطائفتين ، وفي بيان ما يصنع بقتلى الطائفتين ، وفي بيان حكم قضاياهم أما تفسير البغاة ، فالبغاة هم الخوارج ، وهم قوم من رأيهم أن كل ذنب كفر ، كبيرة كانت أو صغيرة ، يخرجون على إمام أهل العدل ، ويستحلون القتال والدماء والأموال بهذا التأويل ، ولهم منعة وقوة .

وأما بيان ما يلزم إمام العدل عند خروجهم فنقول - وبالله التوفيق : إن علم الإمام أن الخوارج يشهرون السلاح ويتأهبون للقتال ، فينبغي له أن يأخذهم ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك ، ويحدثوا توبة ; لأنه لو تركهم لسعوا في الأرض بالفساد ، فيأخذهم على أيديهم ولا يبدؤهم الإمام بالقتال حتى يبدءوه ; لأن قتالهم لدفع شرهم لا لشر شركهم لأنهم مسلمون ، فما لم يتوجه الشر منهم لا يقاتلهم ، وإن لم يعلم الإمام بذلك حتى تعسكروا وتأهبوا للقتال فينبغي له أن يدعوهم إلى العدل ، والرجوع إلى رأي الجماعة أولا لرجاء الإجابة وقبول الدعوة ، كما في حق أهل الحرب .

وكذا روي أن سيدنا عليا رضي الله عنه لما خرج عليه أهل حروراء ندب إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ليدعوهم إلى العدل ، فدعاهم وناظر هم ، فإن أجابوا كف عنهم وإن أبوا قاتلهم ; لقوله تعالى { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } وكذا قاتل سيدنا علي رضي الله عنه أهل حروراء بالنهروان بحضرة الصحابة رضي الله عنهم تصديقا لقوله عليه الصلاة والسلام لسيدنا علي { إنك تقاتل على التأويل كما تقاتل على التنزيل } والقتال على التأويل هو القتال مع الخوارج ، ودل الحديث على إمامة سيدنا علي رضي الله عنه ; لأن النبي عليه الصلاة والسلام شبه قتال سيدنا علي رضي الله عنه على التأويل بقتاله على التنزيل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتاله بالتنزيل ، فلزم أن يكون سيدنا علي محقا في قتاله بالتأويل ، فلو لم يكن إمام حق لما كان محقا في قتاله إياهم ، ولأنهم ساعون في الأرض بالفساد فيقتلون دفعا للفساد على وجه الأرض .

وإن قاتلهم قبل الدعوة لا بأس بذلك ; لأن الدعوة قد بلغتهم لكونهم في دار الإسلام ، ومن المسلمين أيضا ويجب على كل من دعاه الإمام إلى قتالهم أن يجيبه إلى ذلك ولا يسعه التخلف إذا كان عنده غنى وقدرة ; لأن طاعة الإمام فيما ليس بمعصية فرض ، فكيف فيما هو طاعة ؟ والله - سبحانه وتعالى الموفق وما روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه إذا وقعت الفتنة بين المسلمين فينبغي للرجل أن يعتزل الفتنة ، ويلزم بيته ، محمول على وقت خاص ، وهو أن لا يكون إمام يدعوه إلى القتال وأما إذا كان فدعاه يفترض عليه الإجابة لما ذكرنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية