بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما شرائط وجوب هذا الضمان فمنها أن يكون المتلف مالا ، فلا يجب الضمان بإتلاف الميتة والدم وجلد الميتة وغير ذلك مما ليس بمال ، وقد ذكرنا ذلك في كتب البيوع ومنها أن يكون متقوما ، فلا يجب الضمان بإتلاف الخمر والخنزير على المسلم سواء كان المتلف مسلما ، أو ذميا لسقوط تقوم الخمر والخنزير في حق المسلم ، ولو أتلف مسلم ، أو ذمي على ذمي خمرا ، أو خنزيرا يضمن عندنا خلافا للشافعي رحمه الله ، والدلائل مرت في مسائل الغصب ، ولو أتلف ذمي على ذمي خمرا ، أو خنزيرا ، ثم أسلما ، أو أسلم أحدهما أما في الخنزير ، فلا يبرأ المتلف عن الضمان الذي لزمه سواء أسلم الطالب ، أو المطلوب ، أو أسلما جميعا ; لأن الواجب بإتلاف الخنزير القيمة وإنها دراهم ، أو دنانير والإسلام لا يمنع من قبض الدراهم والدنانير .

( وأما ) في الخمر فإن أسلما جميعا ، أو أسلم أحدهما وهو الطالب المتلف عليه برئت ذمة المطلوب وهو المتلف وسقطت عنه الخمر بالإجماع ، ولو أسلم المطلوب أولا ، ثم أسلم الطالب ، أو لم يسلم ففي قول أبي يوسف وهو روايته عن أبي حنيفة يبرأ المطلوب من الخمر ولا يتحول إلى القيمة ، كما لو أسلم الطالب ، وعند محمد وزفر وعافية بن زيد القاضي وهو روايتهم عن أبي حنيفة لا يبرأ المطلوب ويتحول ما عليه من الخمر إلى القيمة ، كما لو كان الإتلاف بعد الإسلام أنه يضمن قيمتها للذمي ، فكذا إذا أتلف بعد الإسلام ، وقد ذكرنا المسألة في كتاب البيوع ، ولو كسر على إنسان بربطا أو طبلا يضمن قيمته خشبا منحوتا عند أبي حنيفة رحمه الله ، وذكر في المنتقى خشبا ألواحا .

وعندهما [ ص: 168 ] لا يضمن وجه قولهما أن هذا آلة اللهو والفساد ، فلم يكن متقوما كالخمر ، ولأبي حنيفة رحمه الله أنه كما يصلح للهو والفساد يصلح للانتفاع به من وجه آخر ، فكان مالا متقوما من ذلك الوجه ، وكذلك لو أراق لإنسان مسكرا ، أو منصفا فهو على هذا الاختلاف والمسألة قد ذكرناها في كتاب البيوع ، ولو أحرق بابا منحوتا عليه تماثيل منقوشة ضمن قيمته غير منقوش بتماثيل ; لأنه لا قيمة لنقش التماثيل ; لأن نقشها محظور ، وإن كان صاحبه قطع رءوس التماثيل ضمن قيمته منقوشا ; لأنه لا يكون تمثالا بلا رأس ، ألا ترى أنه ليس بمحظور ، فكان النقش منقوشا ولو أحرق بساطا فيه تماثيل رجال ضمن قيمته مصورا ; لأن التمثال على البساط ليس بمحظور ; لأن البساط يوطأ ، فكان النقش متقوما ، ولو هدم بيتا مصورا ضمن قيمة البيت ، والصور غير مضمونة ; لأن الصور على البيت لا قيمة لها ; لأنه محظور فأما الصبغ فمتقوم ، ولو قتل جارية مغنية ضمن قيمتها غير مغنية ; لأن الغناء لا قيمة له ; لأنه محظور ، هذا إذا كان الغناء زيادة في الجارية فأما إذا كان نقصانا فيها فإنه يضمن قدر قيمتها ، وعلى هذا تخرج المباحات التي ليست بمملوكة لأحد ; لأنها غير مضمونة بالإتلاف لعدم تقومها إذ التقوم يبنى على العزة والحظر ولا يتحقق ذلك ، إلا بالإحراز والاستيلاء .

( وأما ) المباح المملوك وهو مال الحربي ، فلا يجب الضمان بإتلافه أيضا ، وإن كان متقوما لفقد شرط آخر نذكره إن شاء الله تعالى ، وإن شئت قلت ومنها أن يكون مملوكا ، فلا يجب الضمان بإتلاف المباحات التي لا يملكها أحد ، والتخريج على شرط التقوم أصح ; لأن كون الشيء مملوكا في نفسه ليس بشرط لوجوب الضمان ، فإن الموقوف مضمون بالإتلاف وليس بمملوك أصلا ، أرض بين شريكين زرعها أحدهما وتراضيا على أن يعطي الذي لم يزرع نصف البذر ، ويكون الخارج بينهما فهذا لا يخلو ( إما ) أن كان الزرع نبت ( وإما ) أن كان لم ينبت ، فإن كان قد نبت جاز ; لأن هذا بيع الحشيش بالحنطة وأنه جائز .

وإن كان لم ينبت لم يجز ; لأنه لا يدري ما بقي تحت الأرض مما تلف مع أن ذلك ليس بمال متقوم ، فلا يجوز بيعه فإن نبت الزرع وطلب الذي لم يزرع القسمة قسم ، وأمر الذي زرع أن يقلع ما في نصيب الشريك ; لأن نصيبه مشغول بملكه فيجبر على تفريغه وتضمينه نقصان الزراعة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

( ومنها ) أن يكون المتلف من أهل وجوب الضمان عليه ، حتى لو أتلفت مال إنسان بهيمة لا ضمان على مالكها ; لأن فعل العجماء جبار ، فكان هدرا ولا إتلاف من مالكها ، فلا يجب الضمان عليه ومنها أن يكون في الوجوب فائدة ، فلا ضمان على المسلم بإتلاف مال الحربي ولا على الحربي بإتلاف مال المسلم في دار الحرب ، وكذا لا ضمان على العادل إذا أتلف مال الباغي ، ولا على الباغي إذا أتلف مال العادل ; لأنه لا فائدة في الوجوب لعدم إمكان الوصول إلى الضمان لانعدام الولاية ، فأما العصمة فليست بشرط لوجوب ضمان المال ، إلا أن الصبي مأخوذ بضمان الإتلاف ، وإن لم تثبت عصمة المتلف في حقه ، وكذا يجب الضمان بتناول مال الغير حال المخمصة مع إباحة التناول ، وكذا كسر آلات الملاهي مباح وهي مضمونة بالإتلاف عند أبي حنيفة رحمه الله ، ولا يلزم إذا أتلف مال إنسان بإذنه أنه لا يجب الضمان ; لأن عدم الوجوب ليس لعدم العصمة بل لعدم الفائدة ; لأنه لو وجب الضمان عليه لكان له أن يرجع عليه بما ضمن ، فلا يفيد والله عز شأنه أعلم .

وكذلك العلم بكون المتلف مال الغير ليس بشرط لوجوب الضمان ، حتى لو أتلف مالا على ظن أنه ملكه ثم تبين أنه ملك غيره ضمن ; لأن الإتلاف أمر حقيقي لا يتوقف وجوده على العلم كما في الغصب على ما مر ، إلا أنه إذا علم بذلك يضمن ويأثم ، وإذا لم يعلم يضمن ولا يأثم ; لأن الخطأ مرفوع المؤاخذة شرعا لما ذكرنا في مسائل الغصب ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية