بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وأما ما يكون إبراء عن القسامة والدية فنوعان : نص ودلالة ، أما النص فهو التصريح بلفظ الإبراء وما يجري مجراه كقوله : أبرأت أو أسقطت أو عفوت ونحو ذلك ; لأن ركن الإبراء صدر ممن هو من أهل الإبراء في محل قابل للبراءة فيصح .

وأما الدلالة - فهي : أن يدعي ولي القتيل على رجل من غير أهل المحلة فيبرأ أهل المحلة عن القسامة والدية ; لأن ظهور القتيل في المحلة يدل على كون هذا المدعى عليه قاتلا ، فإقدام الولي على الدعوى عليه يكون نفيا للقتل عن أهل المحلة ، فيتضمن براءتهم عن القسامة والدية ، فإن أقام البينة على المدعى عليه ، وإلا حلف ، فإن حلف برئ ، وإن نكل حبس حتى يحلف أو يقر في قول أبي حنيفة - رحمه الله - ( وعندهما ) : يقضى بالدية ، ولو شهد اثنان من أهل المحلة للولي بهذه الدعوى لا تقبل شهادتهما في قول أبي حنيفة - رحمه الله - وعندهما : تقبل .

( وجه ) قولهما : أن المانع من القبول قبل الدعوى - كانت - التهمة ، وقد زالت بالبراءة فلا معنى لرد الشهادة ولأبي حنيفة - رحمه الله - : أنه تمكنت التهمة في شهادتهم من وجهين : أحدهما : أن من الجائز أنه أبرأهم ليتوسل بالإبراء إلى تصحيح شهادتهم ، والثاني أنه أحسن إليهم بالإبراء حيث أسقط القسامة والدية عنهم ، فمن الجائز أنهم أرادوا بالمكافأة على ذلك ، والشهادة ترد بالتهمة من وجه واحد فمن وجهين أولى ، ولأن أهل المحلة كانوا خصماء في هذه الدعوى فلا تقبل شهادتهم ، وإن خرجوا بالإبراء عن الخصومة ; لأن السبب الموجب لكونهم خصماء قائم ، وهو وجود القتيل فيهم كالوكيل بالخصومة إذا خاصم ثم عزل فشهد لا تقبل شهادته ، كذا هذا ، ولو ادعى ولي القتيل على رجل بعينه من أهل المحلة فالقسامة والدية بحالها في ظاهر الرواية وروى عبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن القسامة تسقط .

وكذا روى محمد .

وقال أبو يوسف : القياس أن تسقط القسامة إلا أنا تركناه للأثر .

( وجه ) رواية ابن المبارك - رحمه الله - : أن تعيين الولي واحدا منهم - إبراء عن الباقين - دلالة فتسقط عنهم القسامة ، كما لو أبرأهم نصا .

( وجه ) ظاهر الرواية : أن القاتل أحد أهل المحلة ظاهرا ، والولي كذلك إلا أنه عين ، وهو متهم في التعيين فلا يعتبر تعيينه إلا بالبينة فلا يعتبر حكم القسامة إلا بها ، فإن أقام البينة من غير أهل المحلة على دعواه يقضى بها ، فيجب القصاص في العمد ، والدية في الخطأ ، ولو شهد شاهدان من المحلة عليه لا تقبل شهادتهما على ظاهر الرواية عن أبي حنيفة رضي الله عنه ; لأن الخصومة بعد هذه الدعوى قائمة فكان الشاهد خصما ; لأنه يقطع الخصومة عن نفسه بشهادته ولا شهادة للخصم ، وإذا لم تقبل شهادة أهل المحلة عليه ، ولم يقم بينة أخرى ، وبقيت القسامة على أهل المحلة على حالها يحلف المدعى عليه والشاهدان مع أهل المحلة حتى يكمل خمسون رجلا من أهل المحلة ثم كيف يستحلف الشهود مع أهل المحلة ؟ عندهما يحلفون بالله - سبحانه وتعالى - ما قتلناه ، ولا علمنا له قاتلا غير فلان ، وعند أبي يوسف يحلفون بالله - جل شأنه - ما قتلناه ولا يزادون على ذلك ; لأن عندهم أن المشهود عليه قاتل فلا سبيل إلى استحلافهم على العلم ، وما قاله أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله - أولى ; لأن فيما قالاه مراعاة موضوع القسامة ، وهو الجمع بين اليمين على البتات والعلم بالقدر الممكن فيما وراء المستثنى ، وفيما قاله أبو يوسف ترك اليمين على العلم أصلا فكان ما قالاه [ ص: 296 ] أولى ، ولو ادعى على أهل تلك المحلة على رجل منهم أو من غيرهم تصح دعواهم ، فإن أقاموا البينة على ذلك الرجل يجب القصاص في العمد ، والدية في الخطأ إن وافقهم الأولياء في الدعوى على ذلك الرجل ، وإن لم يوافقهم في الدعوى عليه لا يجب عليه شيء ; لأن الأولياء قد أبرءوه حيث أنكروا وجود القتل منه ، ولا يجب على أهل المحلة أيضا لأنهم أثبتوا القتل على غيرهم وإن لم يقم لهم البينة وحلف ذلك الرجل تجب القسامة على أهل المحلة ثم كيف يحلفون ؟ فهو على الاختلاف الذي ذكرنا والله - سبحانه وتعالى - الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية