الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما ما يكون إبراء عن القسامة والدية فنوعان : نص ودلالة ، أما النص فهو التصريح بلفظ الإبراء وما يجري مجراه كقوله : أبرأت أو أسقطت أو عفوت ونحو ذلك ; لأن ركن الإبراء صدر ممن هو من أهل الإبراء في محل قابل للبراءة فيصح .

                                                                                                                                وأما الدلالة - فهي : أن يدعي ولي القتيل على رجل من غير أهل المحلة فيبرأ أهل المحلة عن القسامة والدية ; لأن ظهور القتيل في المحلة يدل على كون هذا المدعى عليه قاتلا ، فإقدام الولي على الدعوى عليه يكون نفيا للقتل عن أهل المحلة ، فيتضمن براءتهم عن القسامة والدية ، فإن أقام البينة على المدعى عليه ، وإلا حلف ، فإن حلف برئ ، وإن نكل حبس حتى يحلف أو يقر في قول أبي حنيفة - رحمه الله - ( وعندهما ) : يقضى بالدية ، ولو شهد اثنان من أهل المحلة للولي بهذه الدعوى لا تقبل شهادتهما في قول أبي حنيفة - رحمه الله - وعندهما : تقبل .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما : أن المانع من القبول قبل الدعوى - كانت - التهمة ، وقد زالت بالبراءة فلا معنى لرد الشهادة ولأبي حنيفة - رحمه الله - : أنه تمكنت التهمة في شهادتهم من وجهين : أحدهما : أن من الجائز أنه أبرأهم ليتوسل بالإبراء إلى تصحيح شهادتهم ، والثاني أنه أحسن إليهم بالإبراء حيث أسقط القسامة والدية عنهم ، فمن الجائز أنهم أرادوا بالمكافأة على ذلك ، والشهادة ترد بالتهمة من وجه واحد فمن وجهين أولى ، ولأن أهل المحلة كانوا خصماء في هذه الدعوى فلا تقبل شهادتهم ، وإن خرجوا بالإبراء عن الخصومة ; لأن السبب الموجب لكونهم خصماء قائم ، وهو وجود القتيل فيهم كالوكيل بالخصومة إذا خاصم ثم عزل فشهد لا تقبل شهادته ، كذا هذا ، ولو ادعى ولي القتيل على رجل بعينه من أهل المحلة فالقسامة والدية بحالها في ظاهر الرواية وروى عبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن القسامة تسقط .

                                                                                                                                وكذا روى محمد .

                                                                                                                                وقال أبو يوسف : القياس أن تسقط القسامة إلا أنا تركناه للأثر .

                                                                                                                                ( وجه ) رواية ابن المبارك - رحمه الله - : أن تعيين الولي واحدا منهم - إبراء عن الباقين - دلالة فتسقط عنهم القسامة ، كما لو أبرأهم نصا .

                                                                                                                                ( وجه ) ظاهر الرواية : أن القاتل أحد أهل المحلة ظاهرا ، والولي كذلك إلا أنه عين ، وهو متهم في التعيين فلا يعتبر تعيينه إلا بالبينة فلا يعتبر حكم القسامة إلا بها ، فإن أقام البينة من غير أهل المحلة على دعواه يقضى بها ، فيجب القصاص في العمد ، والدية في الخطأ ، ولو شهد شاهدان من المحلة عليه لا تقبل شهادتهما على ظاهر الرواية عن أبي حنيفة رضي الله عنه ; لأن الخصومة بعد هذه الدعوى قائمة فكان الشاهد خصما ; لأنه يقطع الخصومة عن نفسه بشهادته ولا شهادة للخصم ، وإذا لم تقبل شهادة أهل المحلة عليه ، ولم يقم بينة أخرى ، وبقيت القسامة على أهل المحلة على حالها يحلف المدعى عليه والشاهدان مع أهل المحلة حتى يكمل خمسون رجلا من أهل المحلة ثم كيف يستحلف الشهود مع أهل المحلة ؟ عندهما يحلفون بالله - سبحانه وتعالى - ما قتلناه ، ولا علمنا له قاتلا غير فلان ، وعند أبي يوسف يحلفون بالله - جل شأنه - ما قتلناه ولا يزادون على ذلك ; لأن عندهم أن المشهود عليه قاتل فلا سبيل إلى استحلافهم على العلم ، وما قاله أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله - أولى ; لأن فيما قالاه مراعاة موضوع القسامة ، وهو الجمع بين اليمين على البتات والعلم بالقدر الممكن فيما وراء المستثنى ، وفيما قاله أبو يوسف ترك اليمين على العلم أصلا فكان ما قالاه [ ص: 296 ] أولى ، ولو ادعى على أهل تلك المحلة على رجل منهم أو من غيرهم تصح دعواهم ، فإن أقاموا البينة على ذلك الرجل يجب القصاص في العمد ، والدية في الخطأ إن وافقهم الأولياء في الدعوى على ذلك الرجل ، وإن لم يوافقهم في الدعوى عليه لا يجب عليه شيء ; لأن الأولياء قد أبرءوه حيث أنكروا وجود القتل منه ، ولا يجب على أهل المحلة أيضا لأنهم أثبتوا القتل على غيرهم وإن لم يقم لهم البينة وحلف ذلك الرجل تجب القسامة على أهل المحلة ثم كيف يحلفون ؟ فهو على الاختلاف الذي ذكرنا والله - سبحانه وتعالى - الموفق .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية