صفحة جزء
[ ص: 97 ] 144

ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة

في هذه السنة سير أبو جعفر الناس من الكوفة والبصرة والجزيرة والموصل إلى غزو الديلم ، واستعمل عليهم محمد بن أبي العباس السفاح .

وفيها رجع المهدي من خراسان إلى العراق ، وبنى بريطة ابنة عمه السفاح .

وفيها حج المنصور ، واستعمل على عسكره والميرة خازم بن خزيمة .

ذكر استعمال رياح بن عثمان المري على المدينة وأمر محمد بن عبد الله بن الحسن

وفيها استعمل المنصور على المدينة رياح بن عثمان المري ، وعزل محمد بن خالد بن عبد الله القسري عنها .

وكان سبب عزله وعزل زياد قبله أن المنصور أهمه أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وتخلفهما عن الحضور عنده مع من حضره من بني هاشم عام حج أيام السفاح سنة ست وثلاثين ، وذكر أن محمد بن عبد الله كان يزعم أن المنصور ممن بايعه ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر مروان بن محمد ، فلما حج المنصور سنة ست وثلاثين سأل عنهما ، فقال له زياد بن عبد الله الحارثي : ما يهمك من أمرهما ، أنا آتيك بهما . وكان معه بمكة ، فرده المنصور إلى المدينة .

[ ص: 98 ] فلما استخلف المنصور لم يكن همه إلا أمر محمد والمسألة عنه وما يريد ، فدعا بني هاشم رجلا رجلا يسأله سرا عنه ، فكلهم يقول : قد علم أنك عرفته يطلب هذا الأمر ، فهو يخافك على نفسه ، وهو لا يريد لك خلافا ، وما أشبه هذا الكلام ، إلا الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، فإنه أخبره خبره وقال له : والله ما آمن وثوبه عليك ، فإنه لا ينام عنك ، فأيقظ بكلامه من لا ينام ، فكان موسى بن عبد الله بن الحسن يقول بعد ذلك : اللهم اطلب حسن بن زيد بدمائنا .

ثم ألح المنصور على عبد الله بن الحسن في إحضار ابنه محمد سنة حج ، فقال عبد الله لسليمان بن علي بن عبد الله بن عباس : يا أخي بيننا من الصهر والرحم ما تعلم ، فما ترى ؟ فقال سليمان : والله لكأنني أنظر إلى أخي عبد الله بن علي حين الستر بينه وبيننا وهو يشير إلينا : هذا الذي فعلتم بي ، فلو كان عافيا عفا عن عمه . فقبل عبد الله رأي سليمان ، وعلم أنه قد صدقه ولم يظهر ابنه .

ثم إن المنصور اشترى رقيقا من رقيق الأعراب ، وأعطى الرجل منهم البعير ، والرجل البعيرين ، والرجل الذود ، وفرقهم في طلب محمد في ظهر المدينة ، وكان الرجل منهم يرد الماء كالمار ، وكالضال يسألون عنه ، وبعث المنصور عينا آخر ، وكتب معه كتابا على ألسن الشيعة إلى محمد يذكرون طاعتهم ومسارعتهم ، وبعث معه بمال وألطاف ، وقدم الرجل المدينة فدخل على عبد الله بن الحسن بن الحسن فسأله عن ابنه محمد ، فذكر له ، فكتم له خبره ، فتردد الرجل إليه ، وألح في المسألة ، فذكر أنه في جبل جهينة ، فقال له : امرر بعلي ابن الرجل الصالح الذي يدعى الأغر ، وهو بذي الإبر ، فهو يرشدك ، فأتاه فأرشده .

وكان للمنصور كاتب على سره يتشيع ، فكتب إلى عبد الله بن الحسن يخبره بذلك العين ، فلما قدم الكتاب ارتاعوا له وبعثوا أبا هبار إلى محمد وإلى علي بن الحسن يحذرهما الرجل ، فخرج أبو هبار فنزل بعلي بن الحسن وأخبره ، ثم سار إلى محمد بن عبد الله في موضعه الذي هو به ، فإذا هو جالس في كهف ومعه جماعة من أصحابه ، وذلك العين معهم أعلاهم صوتا ، وأشدهم انبساطا .

فلما رأى أبا هبار خافه ، فقال أبو هبار لمحمد : لي حاجة . فقام معه ، فأخبره الخبر ، قال : فما الرأي ؟ قال : أرى إحدى ثلاث . قال : وما هي ؟ قال : تدعني أقتل هذا الرجل . قال : ما أنا مقارف دما إلا كرها . قال : أثقله حديدا وتنقله معك حيث تنقلب . قال : وهل لنا فرار مع الخوف والإعجال ؟ قال : نشده ونودعه عند بعض أهلك من جهينة . قال : هذه إذا .

[ ص: 99 ] فرجعا فلم يريا الرجل . فقال محمد : أين الرجل ؟ قالوا : [ قام ] بركوة ماء وتوارى بهذا الطريق يتوضأ ، فطلبوه ولم يجدوه فكأن الأرض التأمت عليه ، وسعى على قدميه حتى اتصل بالطريق ، فمر به الأعراب معهم حمولة إلى المدينة ، فقال لبعضهم : فرغ هذه الغرارة وأدخلنيها أكن عدلا لصاحبتها ولك كذا وكذا . ففعل وحمله حتى أقدمهالمدينة .

ثم قدم على المنصور ، وأخبره خبره كله ، ونسي اسم أبي هبار وكنيته وقال : وبار . فكتب أبو جعفر في طلب 9 وبار المري ، فحمل إليه رجل اسمه وبر فسأله عن قصة محمد فحلف أنه لا يعرف من ذلك شيئا ، فأمر به وضرب سبعمائة سوط وحبس حتى مات المنصور .

ثم إنه أحضر عقبة بن سلم الأزدي فقال : أريدك لأمر أنا به معني ، لم أزل أرتاد له رجلا عسى أن تكونه ، وإن كفيتنيه رفعتك . فقال : أرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين في . [ قال ] : فأخف شخصك ، واستر أمرك ، وأتني يوم كذا في وقت كذا .

فأتاه ذلك الوقت . فقال له : إن بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا كيدا لملكنا واغتيالا له ، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم ، ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم ، وألطاف من ألطاف بلادهم ، فاخرج بكسا وألطاف وعين حتى تأتيهم متنكرا بكتاب تكتبه عن أهل هذه القرية ثم تعلم حالهم ، فإن كانوا نزعوا عن رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب ، وإن كانوا على رأيهم عملت ذلك وكنت على حذر ، فاشخص حتى تلقى عبد الله بن الحسن متخشعا ومتقشفا ، فإن جبهك ، وهو فاعل ، فاصبر وعاوده حتى يأنس بك ويلين لك ناحيته ، فإذا أظهر لك ما قبله فاعجل علي .

فشخص حتى قدم على عبد الله ، فلقيه بالكتاب ، فأنكره ونهره وقال : ما أعرف هؤلاء القوم . فلم يزل يتردد إليه حتى قبل كتابه وألطافه وأنس به ، فسأله عقبة الجواب . فقال : أما الكتاب ، فإني لا أكتب إلى أحد ، ولكن أنت كتابي إليهم ، فأقرئهم السلام ، وأعلمهم أنني خارج لوقت كذا وكذا .

ورجع عقبة إلى المنصور فأعلمه الخبر ، فأنشأ المنصور الحج ، وقال لعقبة : إذا لقيني بنو الحسن فيهم عبد الله بن الحسن فأنا مكرمه ، ورافع مجلسه ، وداع بالغداء ، فإذا فرغنا من طعامنا فلحظتك فامثل بين يديه قائما ، فإنه سيصرف عنك بصره ، فاستدر [ ص: 100 ] حتى تغمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ عينه منك ، ثم حسبك ، وإياك أن يراك ما دام يأكل .

فخرج إلى الحج ، فلما لقيه بنو الحسن أجلس عبد الله إلى جانبه ثم دعا بالغداء فأصابوا منه ، ثم رفع فأقبل على عبد الله بن الحسن فقال له : قد علمت ما أعطيتني من العهود والمواثيق ألا تبغيني بسوء ولا تكيد لي سلطانا ؟ قال : فأنا على ذلك يا أمير المؤمنين . فلحظ المنصور عقبة بن سلم فاستدار حتى وقف بين يدي عبد الله فأعرض عنه ، فاستدار حتى قام وراء ظهره فغمزه بإصبعه ، فرفع رأسه فملأ عينه منه ، فوثب حتى قعد بين يدي المنصور ، فقال : ( أقلني يا أمير المؤمنين ، أقالك الله ! قال : لا أقالني الله إن أقلتك ) ! ثم أمر بحبسه .

وكان محمد قد قدم قبل ذلك البصرة ، فنزلها في بني راسب يدعو إلى نفسه ، وقيل : نزل على عبد الله بن شيبان أحد بني مرة بن عبيد ، ثم خرج منها ، فبلغ المنصور مقدمه البصرة ، فسار إليها مغذا ، فنزل عند الحر الأكبر ، فلقيه عمرو بن عبيد فقال له : يا أبا عثمان هل بالبصرة أحد تخافه على أمرنا ؟ قال : لا . قال : فاقتصر على قولك وانصرف . قال : نعم .

وكان محمد قد سار عنها قبل مقدم المنصور ، فرجع المنصور ، واشتد الخوف على محمد وإبراهيم ابني عبد الله فخرجا حتى أتيا عدن ، ثم سارا إلى السند ثم إلى الكوفة ثم إلى المدينة .

وكان المنصور قد حج سنة أربعين ومائة ، فقسم أموالا عظيمة في آل أبي طالب ، فلم يظهر محمد وإبراهيم ، فسأل أباهما عبد الله عنهما ، فقال : لا علم لي بهما ، فتغالظا ، فأمصه أبو جعفر المنصور حتى قال له : امصص كذا وكذا من أمك ! فقال : يا أبا جعفر ، بأي أمهاتي تمصني ؟ ! أبفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ أم بفاطمة بنت الحسين بن علي ؟ أم بأم إسحاق بنت طلحة ؟ أم بخديجة بنت خويلد ؟ [ قال ] : لا بواحدة منهن ، ولكن بالحرباء بنت قسامة بن زهير ! وهي امرأة من طيئ ، فقال المسيب بن زهير : يا أمير المؤمنين ، دعني أضرب عنق ابن الفاعلة ! فقام زياد بن عبد الله فألقى عليه رداءه وقال : هبه لي [ يا ] أمير المؤمنين ، فأستخرج لك ابنيه ، فتخلصه [ منه ] .

[ ص: 101 ] وكان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله قد تغيبا حين حج المنصور سنة أربعين ومائة عن المدينة ، وحج أيضا فاجتمعوا بمكة وأرادوا اغتيال المنصور ، فقال لهم الأشتر عبد الله بن محمد : أنا أكفيكموه ! فقال محمد : لا والله لا أقتله أبدا غيلة حتى أدعوه . فنقض ما كانوا أجمعوا عليه .

وكان قد دخل عليهم قائد من قواد المنصور من أهل خراسان اسمه خالد بن حسان يدعى أبا العساكر على ألف رجل ، فنمى الخبر إلى المنصور فطلب ، فلم يظفر به ، فظفر بأصحابه فقتلهم ، وأما القائد فإنه لحق بمحمد بن عبد الله بن محمد .

ثم إن المنصور حث زياد بن عبد الله على طلب محمد وإبراهيم ، فضمن له ذلك ووعده به ، فقدم محمد المدينة قدمة ، فبلغ ذلك زيادا ، فتلطف له ، وأعطاه الأمان على أن يظهر وجهه للناس ، فوعده محمد ذلك ، فركب زياد مع المساء وواعد محمدا سوق الظهر ، وركب محمد ، فتصايح الناس : يا أهل المدينة ، المهدي المهدي ! فوقف هو وزياد ، فقال زياد : يا أيها الناس ، هذا محمد بن عبد الله بن الحسن ، ثم قال له : الحق بأي بلاد الله شئت . فتوارى محمد .

وسمع المنصور الخبر فأرسل أبا الأزهر في جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين ومائة إلى المدينة ، فأمره أن يستعمل على المدينة عبد العزيز بن المطلب ، وأن يقبض على زياد وأصحابه ، ويسير بهم إليه ، فقدم أبو الأزهر المدينة ، ففعل ما أمره ، وأخذ زيادا وأصحابه ، وسار نحو المنصور ، وخلف زياد في بيت مال المدينة ثمانين ألف دينار ، فسجنهم المنصور ، ثم من عليهم بعد ذلك .

واستعمل المنصور على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري ، وأمره بطلب محمد بن عبد الله ، وبسط يده في النفقة في طلبه . فقدم المدينة في رجب سنة إحدى وأربعين ، فأخذ المال ورفع في محاسبته أموالا كثيرة أنفقها في طلب محمد ، فاستبطأه أبو جعفر واتهمه ، فكتب إليه يأمره بكشف المدينة وأعراضها ، فطاف ببيوت الناس فلم يجد محمدا .

فلما رأى المنصور ما قد أخرج من الأموال ، ولم يظفر بمحمد استشار أبا العلاء - رجلا من قيس عيلان - في أمر محمد بن عبد الله وأخيه ، فقال : أرى أن تستعمل رجلا من ولد الزبير أو طلحة ، فإنهم يطلبونهما بذحل ، ويخرجونهما إليك . فقال : قاتلك الله ما أجود ما رأيت ! والله ما خفي علي هذا ، ولكنني أعاهد الله لا أنتقم من بني عمي وأهل [ ص: 102 ] بيتي بعدوي وعدوهم ، ولكني أبعث عليهم صعلوكا من العرب يفعل بهم ما قلت .

فاستشار يزيد بن يزيد السلمي وقال له : دلني على فتى مقل من قيس أغنيه وأشرفه وأمكنه من سيد اليمن ، يعني ابن القسري ، [ قال ] : هو رياح بن عثمان بن حيان المري ، فسيره أميرا على المدينة في رمضان سنة أربع وأربعين .

وقيل : إن رياحا ضمن للمنصور أن يخرج محمدا وإبراهيم ابني عبد الله إن استعمله على المدينة ، فاستعمله عليها ، فسار حتى دخلها ، فلما دخل دار مروان ، وهي التي كان ينزلها الأمراء ، قال لحاجب كان له يقال له أبو البختري : هذه دار مروان ؟ قال : نعم . قال : أما إنها محلال مظعان ، ونحن أول من يظعن منها .

فلما تفرق الناس عنه قال لحاجبه : يا أبا البختري ، خذ بيدي ندخل على هذا الشيخ ، يعني عبد الله بن الحسن ، فدخلا عليه ، وقال رياح : أيها الشيخ ، إن أمير المؤمنين والله ما استعملني لرحم قريبة ، ولا ليد سلفت إليه ، والله لا لعبت في كما لعبت بزياد وابن القسري ، والله لأزهقن نفسك ، أو لتأتيني بابنيك محمد وإبراهيم ! فرفع رأسه إليه وقال : نعم ، أما والله إنك لأزيرق قيس المذبوح فيها كما تذبح الشاة ! .

قال أبو البختري : فانصرف والله رياح آخذا بيدي ، أجد برد يده ، وإن رجليه لتخطان الأرض مما كلمه . قال : فقلت له : إن هذا ما اطلع على الغيب . قال : إيها ، ويلك ! فوالله ما قال إلا ما سمع . فذبح كما تذبح الشاة .

ثم إنه دعا بالقسري وسأله عن الأموال ، فضربه وسجنه ، وأخذ كاتبه رزاما وعاقبه فأكثر ، وطلب إليه أن يذكر ما أخذ محمد بن خالد من الأموال ، وهو لا يجيبه ، فلما طال عليه العذاب أجابه إلى ذلك ، فقال له رياح : أحضر الرفيعة وقت اجتماع الناس ، ففعل ذلك ، فلما اجتمع الناس أحضره فقال : أيها الناس إن الأمير أمرني أن أرفع على ابن خالد ، وقد كتبت كتابا لأنجو به ، وإنا لنشهدكم أن كل ما فيه باطل . فأمر رياح فضرب مائة سوط ، ورد إلى السجن .

وجد رياح في طلب محمد ، فأخبر أنه في شعب من شعاب رضوى ، جبل جهينة ، وهو في عمل ينبع ، فأمر عامله في طلب محمد ، فهرب منه راجلا ، فأفلت وله ابن صغير [ ص: 103 ] ولد في خوفه وهو مع جارية له فسقط من الجبل فتقطع ، فقال محمد :


منخرق السربال يشكو الوجى تنكبه أطراف مرو حداد     شرده الخوف فأزرى به
كذاك من يكره حر الجلاد     قد كان في الموت له راحة
والموت حتم في رقاب العباد

.

وبينا رياح يسير في الحرة إذ لقي محمدا ، فعدل محمد إلى بئر هناك فجعل يستقي ، فقال رياح : قاتله الله أعرابيا ما أحسن ذراعه ! .

التالي السابق


الخدمات العلمية