صفحة جزء
ذكر موت المنصور ووصيته

وفي هذه السنة توفي المنصور لست خلون من ذي الحجة ببئر ميمون ، وكان على ما قيل قد هتف به هاتف من قصره ، فسمعه يقول :


أما ورب السكون والحرك إن المنايا كثيرة الشرك     عليك ، يا نفس إن أسأت ، وإن
أحسنت بالقصد ، كل ذاك لك     ما اختلف الليل والنهار ، ولا
دارت نجوم السماء في الفلك     إلا تنقل السلطان عن ملك
إذا انتهى ملكه إلى ملك     حتى يصيرا به إلى ملك
ما عز سلطانه بمشترك

[ ص: 194 ]

ذاك بديع السماء والأرض وال     مرسي الجبال المسخر الفلك

فقال المنصور : هذا أوان أجلي .

قال الطبري : وقد حكى عبد العزيز بن مسلم أنه قال : دخلت على المنصور يوما أسلم عليه ، فإذا هو باهت لا يحير جوابا ، فوثبت لما أرى منه لأنصرف ، فقال [ لي ] بعد ساعة إني رأيت في المنام كأن رجلا ينشدني هذه [ الأبيات ] :


أأخي خفض من مناكا     فكأن يومك قد أتاكا
ولقد أراك الدهر من     تصرفيه ما قد أراكا
فإذا أردت الناقص ال     عبد الذليل ، فأنت ذاكا
ملكت ما ملكته     والأمر فيه إلى سواكا

.

هذا الذي ترى من قلقي وغمي لما سمعت ورأيت ، فقلت : خيرا رأيت يا أمير المؤمنين ، فلم يلبث أن خرج إلى مكة .

فلما سار من بغداذ ليحج نزل قصر عبدويه ، فانقض في مقامه هنالك كوكب لثلاث بقين من شوال ، بعد إضاءة الفجر ، فبقي أثره بينا إلى طلوع الشمس ، فأحضر المهدي ، وكان قد صحبه ليودعه ، فوصاه بالمال والسلطان ، يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه ، بكرة وعشية ، فلما كان اليوم الذي ارتحل فيه قال له : إني لم أدع شيئا إلا وقد تقدمت إليك فيه ، وسأوصيك بخصال ما أظنك تفعل واحدة منها .

( وكان له سفط فيه دفاتر علمه ) ، وعليه قفل لا يفتحه غيره ، فقال للمهدي : انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به ، فإن فيه علم آبائك ، ( ما كان ) وما هو كائن إلى يوم القيامة ، فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الكبير ، فإن أصبت فيه ما تريد ، وإلا ففي الثاني والثالث ، حتى بلغ سبعة ، فإن ثقل عليك ، فالكراسة الصغيرة ، فإنك واجد فيها ما تريد ، وما أظنك تفعل .

[ ص: 195 ] وانظر هذه المدينة ، وإياك أن تستبدل بها غيرها ، وقد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند والنفقات ، والذرية ، ومصلحة البعوث ، فاحتفظ بها ، فإنك لا تزال عزيزا ما دام بيت مالك عامرا ، وما أظنك تفعل .

وأوصيك بأهل بيتك أن تظهر كرامتهم ، وتحسن إليهم ، وتقدمهم ، وتوطئ الناس أعقابهم ، وتوليهم المنابر ، فإن عزك عزهم ، وذكرهم لك ، وما أظنك تفعل .

وانظر مواليك فأحسن إليهم ، وقربهم ، واستكثر منهم ، فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك ، وما أظنك تفعل .

وأوصيك بأهل خراسان خيرا ، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك ، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم ، أن تحسن إليهم ، وتتجاوز عن مسيئهم ، وتكافئهم عما كان منهم ، وتخلف من مات منهم في أهله وولده ، وما أظنك تفعل .

وإياك أن تبني مدينة الشرقية ، فإنك لا تتم بناءها ، وأظنك ستفعل .

وإياك أن تستعين برجل من بني سليم ، وأظنك ستفعل .

وإياك أن تدخل النساء في أمرك ، وأظنك ستفعل .

وقيل : قال له : إني ولدت في ذي الحجة ، ووليت في ذي الحجة ، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة ، وإنما حداني على الحج ذلك ، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي ، يجعل لك فيما كربك وحزنك فرجا ومخرجا ، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب .

يا بني احفظ محمدا - صلى الله عليه وسلم - في أمته ، يحفظك الله ( ويحفظ ) عليك أمورك ، وإياك والدم والحرام ، فإنه حوب عند الله عظيم ، وعار في الدنيا لازم مقيم ، والزم الحدود ، فإن فيها خلاصك في الآجل وصلاحك في العاجل ، ولا تعتد فيها فتبور ، فإن الله تعالى لو علم أن شيئا أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه .

[ ص: 196 ] واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه [ أنه ] أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادا مع ما ذكر له من العذاب العظيم فقال : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ) الآية .

فالسلطان ، يا بني حبل الله المتين ، وعروته الوثقى ، ودينه القيم ، فاحفظه ، وحصنه ، وذب عنه ، وأوقع بالملحدين فيه ، واقمع المارقين منه ، واقتل الخارجين عنه بالعقاب ، ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن ، واحكم بالعدل ، ولا تشطط ، فإن ذلك أقطع للشغب ، وأحسم للعدو ، وأنجع في الدواء .

وعف عن الفيء ، فليس بك إليه حاجة مع ما خلفه الله لك ، وافتتح [ عملك ] بصلة الرحم وبر القرابة ، وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية ، واشحن الثغور ، واضبط الأطراف ، وأمن السبل ، وسكن العامة ، وأدخل المرافق عليهم ، وادفع المكاره عنهم .

وأعد الأموال ، واخزنها ، وإياك والتبذير ، فإن النوائب غير مأمونة ، وهي من شيم الزمان .

وأعد الكراع والرجال والجند ما استطعت ، وإياك وتأخير عمل اليوم إلى الغد ، فتتدارك عليك الأمور وتضيع ، جد في إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولا [ فأولا ] ، واجتهد وشمر فيها .

وأعد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار ، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل ، وباشر الأمور بنفسك ، ولا تضجر ، ولا تكسل ، واستعمل حسن الظن [ بربك ] ، وأسئ الظن بعمالك وكتابك .

وخذ نفسك بالتيقظ ، وتفقد من تثبت على بابك ، وسهل إذنك للناس ، وانظر في أمر النزاع إليك ، ووكل بهم عينا غير نائمة ، ونفسا غير لاهية ، ولا تنم ، وإياك ، فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة ، ولا دخل عينه الغمض إلا وقلبه مستيقظ . هذه وصيتي إليك ، والله خليفتي عليك .

ثم ودعه وبكى كل واحد منهما إلى صاحبه ، ثم سار إلى الكوفة ، وجمع بين الحج والعمرة ، وساق الهدي ، وأشعره ، وقلده لأيام خلت من ذي القعدة .

[ ص: 197 ] فلما سار منازل من الكوفة عرض له وجعه الذي مات به وهو القيام ، فلما اشتد وجعه جعل يقول للربيع : بادرني حرم ربي هاربا من ذنوبي ، وكان الربيع عديله ، ووصاه بما أراد .

فلما وصل إلى بئر ميمون مات بها مع السحر لست خلون من ذي الحجة ، ولم يحضره عند وفاته إلا خدمه ، والربيع مولاه ، فكتم الربيع موته ، ومنع من البكاء عليه ، ثم أصبح ، فحضر أهل بيته كما كانوا يحضرون .

وكان أول من دعا عمه عيسى بن علي ، فمكث ساعة ، ثم أذن ( لابن أخيه عيسى ) بن موسى وكان فيما خلا يقدم على عيسى بن علي ، ثم أذن للأكابر وذوي الأسنان منهم ، ثم لعامتهم ، فبايعهم الربيع للمهدي ، ولعيسى بن موسى بعده على يدي موسى الهادي بن المهدي .

فلما فرغ من بيعة بني هاشم بايع القواد ، وبايع عامة الناس ، وسار العباس بن محمد ومحمد بن سليمان إلى مكة ليبايعا الناس ، فبايعوا بين الركن والمقام .

واشتغلوا بتجهيز المنصور ، ففرغوا منه العصر ، وكفن وغطي وجهه وبدنه ، وجعل رأسه مكشوفا لأجل إحرامه ، وصلى عليه عيسى بن موسى ، وقيل إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، ودفن في مقبرة المعلاة ، وحفروا له مائة قبر ليغموا على الناس ، ودفن في غيرها ، ونزل في قبره عيسى بن علي ، وعيسى بن محمد ، والعباس بن محمد ، والربيع والريان مولياه ، ويقطين .

وكان عمره ثلاثا وستين سنة ، وقيل أربعا وستين ، وقيل ثمانيا وستين سنة ، فكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة وعشرين يوما ، وقيل إلا ثلاثة أيام ، وقيل إلا يومين .

وقيل في موته : إنه لما نزل آخر منزل بطريق مكة نظر في صدر البيت ، فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم


أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت     سنوك ، وأمر الله لابد واقع

[ ص: 198 ]

أبا جعفر هل كاهن أو منجم     لك اليوم من حر المنية مانع

.

فأحضر متولي المنازل ، وقال له : ألم آمرك أن لا يدخل المنازل أحد من الناس ؟ قال : والله ما دخلها أحد منذ فرغ [ منها ] .

فقال : اقرأ ما في صدر البيت ! فقال : ما أرى شيئا ، فأحضر غيره ، فلم ير شيئا ، فأملى البيتين ، ثم قال لحاجبه : اقرأ آية ، فقرأ : ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) . فأمر به فضرب ، ورحل من المنزل تطيرا ، فسقط عن دابته ، فاندق ظهره ومات ، فدفن ببئر ميمون . والصحيح ما تقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية