ذكر
nindex.php?page=treesubj&link=33800_34064موت المنصور ووصيته
وفي هذه السنة توفي
المنصور لست خلون من ذي الحجة
ببئر ميمون ، وكان على ما قيل قد هتف به هاتف من قصره ، فسمعه يقول :
أما ورب السكون والحرك إن المنايا كثيرة الشرك عليك ، يا نفس إن أسأت ، وإن
أحسنت بالقصد ، كل ذاك لك ما اختلف الليل والنهار ، ولا
دارت نجوم السماء في الفلك إلا تنقل السلطان عن ملك
إذا انتهى ملكه إلى ملك حتى يصيرا به إلى ملك
ما عز سلطانه بمشترك
[ ص: 194 ] ذاك بديع السماء والأرض وال مرسي الجبال المسخر الفلك
فقال
المنصور : هذا أوان أجلي .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري : وقد حكى
nindex.php?page=showalam&ids=16381عبد العزيز بن مسلم أنه قال : دخلت على
المنصور يوما أسلم عليه ، فإذا هو باهت لا يحير جوابا ، فوثبت لما أرى منه لأنصرف ، فقال [ لي ] بعد ساعة إني رأيت في المنام كأن رجلا ينشدني هذه [ الأبيات ] :
أأخي خفض من مناكا فكأن يومك قد أتاكا
ولقد أراك الدهر من تصرفيه ما قد أراكا
فإذا أردت الناقص ال عبد الذليل ، فأنت ذاكا
ملكت ما ملكته والأمر فيه إلى سواكا
.
هذا الذي ترى من قلقي وغمي لما سمعت ورأيت ، فقلت : خيرا رأيت يا أمير المؤمنين ، فلم يلبث أن خرج إلى
مكة .
فلما سار من
بغداذ ليحج نزل قصر عبدويه ، فانقض في مقامه هنالك كوكب لثلاث بقين من شوال ، بعد إضاءة الفجر ، فبقي أثره بينا إلى طلوع الشمس ، فأحضر
المهدي ، وكان قد صحبه ليودعه ، فوصاه بالمال والسلطان ، يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه ، بكرة وعشية ، فلما كان اليوم الذي ارتحل فيه قال له : إني لم أدع شيئا إلا وقد تقدمت إليك فيه ، وسأوصيك بخصال ما أظنك تفعل واحدة منها .
( وكان له سفط فيه دفاتر علمه ) ، وعليه قفل لا يفتحه غيره ، فقال
للمهدي : انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به ، فإن فيه علم آبائك ، ( ما كان ) وما هو كائن إلى يوم القيامة ، فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الكبير ، فإن أصبت فيه ما تريد ، وإلا ففي الثاني والثالث ، حتى بلغ سبعة ، فإن ثقل عليك ، فالكراسة الصغيرة ، فإنك واجد فيها ما تريد ، وما أظنك تفعل .
[ ص: 195 ] وانظر هذه المدينة ، وإياك أن تستبدل بها غيرها ، وقد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند والنفقات ، والذرية ، ومصلحة البعوث ، فاحتفظ بها ، فإنك لا تزال عزيزا ما دام بيت
مالك عامرا ، وما أظنك تفعل .
وأوصيك بأهل بيتك أن تظهر كرامتهم ، وتحسن إليهم ، وتقدمهم ، وتوطئ الناس أعقابهم ، وتوليهم المنابر ، فإن عزك عزهم ، وذكرهم لك ، وما أظنك تفعل .
وانظر مواليك فأحسن إليهم ، وقربهم ، واستكثر منهم ، فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك ، وما أظنك تفعل .
وأوصيك بأهل خراسان خيرا ، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك ، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم ، أن تحسن إليهم ، وتتجاوز عن مسيئهم ، وتكافئهم عما كان منهم ، وتخلف من مات منهم في أهله وولده ، وما أظنك تفعل .
وإياك أن تبني مدينة الشرقية ، فإنك لا تتم بناءها ، وأظنك ستفعل .
وإياك أن تستعين برجل من
بني سليم ، وأظنك ستفعل .
وإياك أن تدخل النساء في أمرك ، وأظنك ستفعل .
وقيل : قال له : إني ولدت في ذي الحجة ، ووليت في ذي الحجة ، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة ، وإنما حداني على الحج ذلك ، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي ، يجعل لك فيما كربك وحزنك فرجا ومخرجا ، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب .
يا بني احفظ محمدا - صلى الله عليه وسلم - في أمته ، يحفظك الله ( ويحفظ ) عليك أمورك ، وإياك والدم والحرام ، فإنه حوب عند الله عظيم ، وعار في الدنيا لازم مقيم ، والزم الحدود ، فإن فيها خلاصك في الآجل وصلاحك في العاجل ، ولا تعتد فيها فتبور ، فإن الله تعالى لو علم أن شيئا أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه .
[ ص: 196 ] واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه [ أنه ] أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادا مع ما ذكر له من العذاب العظيم فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=33إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ) الآية .
فالسلطان ، يا بني حبل الله المتين ، وعروته الوثقى ، ودينه القيم ، فاحفظه ، وحصنه ، وذب عنه ، وأوقع بالملحدين فيه ، واقمع المارقين منه ، واقتل الخارجين عنه بالعقاب ، ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن ، واحكم بالعدل ، ولا تشطط ، فإن ذلك أقطع للشغب ، وأحسم للعدو ، وأنجع في الدواء .
وعف عن الفيء ، فليس بك إليه حاجة مع ما خلفه الله لك ، وافتتح [ عملك ] بصلة الرحم وبر القرابة ، وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية ، واشحن الثغور ، واضبط الأطراف ، وأمن السبل ، وسكن العامة ، وأدخل المرافق عليهم ، وادفع المكاره عنهم .
وأعد الأموال ، واخزنها ، وإياك والتبذير ، فإن النوائب غير مأمونة ، وهي من شيم الزمان .
وأعد الكراع والرجال والجند ما استطعت ، وإياك وتأخير عمل اليوم إلى الغد ، فتتدارك عليك الأمور وتضيع ، جد في إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولا [ فأولا ] ، واجتهد وشمر فيها .
وأعد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار ، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل ، وباشر الأمور بنفسك ، ولا تضجر ، ولا تكسل ، واستعمل حسن الظن [ بربك ] ، وأسئ الظن بعمالك وكتابك .
وخذ نفسك بالتيقظ ، وتفقد من تثبت على بابك ، وسهل إذنك للناس ، وانظر في أمر النزاع إليك ، ووكل بهم عينا غير نائمة ، ونفسا غير لاهية ، ولا تنم ، وإياك ، فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة ، ولا دخل عينه الغمض إلا وقلبه مستيقظ . هذه وصيتي إليك ، والله خليفتي عليك .
ثم ودعه وبكى كل واحد منهما إلى صاحبه ، ثم سار إلى
الكوفة ، وجمع بين الحج والعمرة ، وساق الهدي ، وأشعره ، وقلده لأيام خلت من ذي القعدة .
[ ص: 197 ] فلما سار منازل من
الكوفة عرض له وجعه الذي مات به وهو القيام ، فلما اشتد وجعه جعل يقول
للربيع : بادرني حرم ربي هاربا من ذنوبي ، وكان
الربيع عديله ، ووصاه بما أراد .
فلما وصل إلى
بئر ميمون مات بها مع السحر لست خلون من ذي الحجة ، ولم يحضره عند وفاته إلا خدمه ،
والربيع مولاه ، فكتم
الربيع موته ، ومنع من البكاء عليه ، ثم أصبح ، فحضر أهل بيته كما كانوا يحضرون .
وكان أول من دعا عمه
nindex.php?page=showalam&ids=16746عيسى بن علي ، فمكث ساعة ، ثم أذن ( لابن أخيه
nindex.php?page=showalam&ids=16752عيسى ) بن موسى وكان فيما خلا يقدم على
nindex.php?page=showalam&ids=16746عيسى بن علي ، ثم أذن للأكابر وذوي الأسنان منهم ، ثم لعامتهم ، فبايعهم
الربيع للمهدي ،
ولعيسى بن موسى بعده على يدي
موسى الهادي بن المهدي .
فلما فرغ من بيعة
بني هاشم بايع القواد ، وبايع عامة الناس ، وسار
العباس بن محمد nindex.php?page=showalam&ids=16970ومحمد بن سليمان إلى
مكة ليبايعا الناس ، فبايعوا بين الركن والمقام .
واشتغلوا بتجهيز
المنصور ، ففرغوا منه العصر ، وكفن وغطي وجهه وبدنه ، وجعل رأسه مكشوفا لأجل إحرامه ، وصلى عليه
nindex.php?page=showalam&ids=16752عيسى بن موسى ، وقيل
إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، ودفن في مقبرة المعلاة ، وحفروا له مائة قبر ليغموا على الناس ، ودفن في غيرها ، ونزل في قبره
nindex.php?page=showalam&ids=16746عيسى بن علي ،
وعيسى بن محمد ،
والعباس بن محمد ،
والربيع والريان مولياه ،
ويقطين .
وكان عمره ثلاثا وستين سنة ، وقيل أربعا وستين ، وقيل ثمانيا وستين سنة ، فكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة وعشرين يوما ، وقيل إلا ثلاثة أيام ، وقيل إلا يومين .
وقيل في موته : إنه لما نزل آخر منزل بطريق
مكة نظر في صدر البيت ، فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت سنوك ، وأمر الله لابد واقع
[ ص: 198 ] أبا جعفر هل كاهن أو منجم لك اليوم من حر المنية مانع
.
فأحضر متولي المنازل ، وقال له : ألم آمرك أن لا يدخل المنازل أحد من الناس ؟ قال : والله ما دخلها أحد منذ فرغ [ منها ] .
فقال : اقرأ ما في صدر البيت ! فقال : ما أرى شيئا ، فأحضر غيره ، فلم ير شيئا ، فأملى البيتين ، ثم قال لحاجبه : اقرأ آية ، فقرأ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=227وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) . فأمر به فضرب ، ورحل من المنزل تطيرا ، فسقط عن دابته ، فاندق ظهره ومات ، فدفن
ببئر ميمون . والصحيح ما تقدم .
ذِكْرُ
nindex.php?page=treesubj&link=33800_34064مَوْتِ الْمَنْصُورِ وَوَصِيَّتِهِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ
الْمَنْصُورُ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
بِبِئْرِ مَيْمُونٍ ، وَكَانَ عَلَى مَا قِيلَ قَدْ هَتَفَ بِهِ هَاتِفٌ مِنْ قَصْرِهِ ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ :
أَمَا وَرَبِّ السُّكُونِ وَالْحَرَكِ إِنَّ الْمَنَايَا كَثِيرَةُ الشَّرَكِ عَلَيْكِ ، يَا نَفْسُ إِنْ أَسَأْتِ ، وَإِنْ
أَحْسَنْتِ بِالْقَصْدِ ، كُلُّ ذَاكَ لَكِ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، وَلَا
دَارَتْ نُجُومُ السَّمَاءِ فِي الْفَلَكِ إِلَّا تَنَقَّلَ السُّلْطَانُ عَنْ مَلِكٍ
إِذَا انْتَهَى مُلْكُهُ إِلَى مَلِكِ حَتَّى يَصِيرَا بِهِ إِلَى مَلِكٍ
مَا عِزُّ سُلْطَانِهِ بِمُشْتَرَكِ
[ ص: 194 ] ذَاكَ بَدِيعُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْ مُرْسِي الْجِبَالِ الْمُسَخِّرِ الْفَلَكِ
فَقَالَ
الْمَنْصُورُ : هَذَا أَوَانُ أَجَلِي .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطَّبَرِيُّ : وَقَدْ حَكَى
nindex.php?page=showalam&ids=16381عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى
الْمَنْصُورِ يَوْمًا أُسَلِّمُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا هُوَ بَاهِتٌ لَا يُحِيرُ جَوَابًا ، فَوَثَبْتُ لِمَا أَرَى مِنْهُ لِأَنْصَرِفَ ، فَقَالَ [ لِي ] بَعْدَ سَاعَةٍ إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رُجَلًا يُنْشِدُنِي هَذِهِ [ الْأَبْيَاتَ ] :
أَأُخَيَّ خَفِّضْ مِنْ مُنَاكَا فَكَأَنَّ يَوْمَكَ قَدْ أَتَاكَا
وَلَقَدْ أَرَاكَ الدَّهْرَ مِنْ تَصَرُّفَيْهِ مَا قَدْ أَرَاكَا
فَإِذَا أَرَدْتَ النَّاقِصَ الْ عَبْدَ الذَّلِيلَ ، فَأَنْتَ ذَاكَا
مُلِّكْتَ مَا مُلِّكْتَهُ وَالْأَمُرُ فِيهِ إِلَى سِوَاكَا
.
هَذَا الَّذِي تَرَى مِنْ قَلَقِي وَغَمِّي لِمَا سَمِعْتُ وَرَأَيْتُ ، فَقُلْتُ : خَيْرًا رَأَيْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ إِلَى
مَكَّةَ .
فَلَمَّا سَارَ مِنْ
بَغْدَاذَ لِيَحُجَّ نَزَلَ قَصْرَ عَبْدَوَيْهِ ، فَانْقَضَّ فِي مَقَامِهِ هُنَالِكَ كَوْكَبٌ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ ، بَعْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ ، فَبَقِيَ أَثَرُهُ بَيِّنًا إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ، فَأَحْضَرَ
الْمَهْدِيَّ ، وَكَانَ قَدْ صَحِبَهُ لِيُوَدِّعَهُ ، فَوَصَّاهُ بِالْمَالِ وَالسُّلْطَانِ ، يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ مُقَامِهِ ، بُكْرَةً وَعَشِيَّةً ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي ارْتَحَلَ فِيهِ قَالَ لَهُ : إِنِّي لَمْ أَدَعْ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ فِيهِ ، وَسَأُوصِيكَ بِخِصَالٍ مَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ وَاحِدَةً مِنْهَا .
( وَكَانَ لَهُ سَفَطٌ فِيهِ دَفَاتِرُ عِلْمِهِ ) ، وَعَلَيْهِ قُفْلٌ لَا يَفْتَحُهُ غَيْرُهُ ، فَقَالَ
لِلْمَهْدِيِّ : انْظُرْ إِلَى هَذَا السَّفَطِ فَاحْتَفِظْ بِهِ ، فَإِنَّ فِيهِ عِلْمَ آبَائِكَ ، ( مَا كَانَ ) وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَإِنْ أَحْزَنَكَ أَمْرٌ فَانْظُرْ فِي الدَّفْتَرِ الْكَبِيرِ ، فَإِنْ أَصَبْتَ فِيهِ مَا تُرِيدُ ، وَإِلَّا فَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ ، حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةً ، فَإِنْ ثَقُلَ عَلَيْكَ ، فَالْكُرَّاسَةُ الصَّغِيرَةُ ، فَإِنَّكَ وَاجِدٌ فِيهَا مَا تُرِيدُ ، وَمَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ .
[ ص: 195 ] وَانْظُرْ هَذِهِ الْمَدِينَةَ ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَبْدِلَ بِهَا غَيْرَهَا ، وَقَدْ جَمَعْتُ لَكَ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا إِنْ كُسِرَ عَلَيْكَ الْخَرَاجُ عَشْرَ سِنِينَ كَفَاكَ لِأَرْزَاقِ الْجُنْدِ وَالنَّفَقَاتِ ، وَالذُّرِّيَّةِ ، وَمَصْلَحَةِ الْبُعُوثِ ، فَاحْتَفِظْ بِهَا ، فَإِنَّكَ لَا تَزَالُ عَزِيزًا مَا دَامَ بَيْتُ
مَالِكَ عَامِرًا ، وَمَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ .
وَأُوصِيكَ بِأَهْلِ بَيْتِكَ أَنْ تُظْهِرَ كَرَامَتَهُمْ ، وَتُحْسِنَ إِلَيْهِمْ ، وَتُقَدِّمَهُمْ ، وَتُوطِئَ النَّاسَ أَعْقَابُهُمْ ، وَتُوَلِّيَهُمُ الْمَنَابِرَ ، فَإِنَّ عِزَّكَ عِزَّهُمْ ، وَذِكْرَهُمْ لَكَ ، وَمَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ .
وَانْظُرْ مَوَالِيَكَ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ ، وَقَرِّبْهُمْ ، وَاسْتَكْثِرْ مِنْهُمْ ، فَإِنَّهُمْ مَادَّتُكَ لِشِدَّةٍ إِنْ نَزَلَتْ بِكَ ، وَمَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ .
وَأُوصِيكَ بِأَهْلِ خُرَاسَانَ خَيْرًا ، فَإِنَّهُمْ أَنْصَارُكَ وَشِيعَتُكَ الَّذِينَ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ فِي دَوْلَتِكَ ، وَمَنْ لَا تَخْرُجُ مَحَبَّتُكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ ، أَنْ تُحْسِنَ إِلَيْهِمْ ، وَتَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ ، وَتُكَافِئَهُمْ عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ ، وَتَخْلُفَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ ، وَمَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ .
وَإِيَّاكَ أَنْ تَبْنِيَ مَدِينَةَ الشَّرْقِيَّةِ ، فَإِنَّكَ لَا تُتِمُّ بِنَاءَهَا ، وَأَظُنُّكَ سَتَفْعَلُ .
وَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَعِينَ بِرَجُلٍ مِنْ
بَنِي سُلَيْمٍ ، وَأَظُنُّكَ سَتَفْعَلُ .
وَإِيَّاكَ أَنْ تُدْخِلَ النِّسَاءَ فِي أَمْرِكَ ، وَأَظُنُّكَ سَتَفْعَلُ .
وَقِيلَ : قَالَ لَهُ : إِنِّي وُلِدْتُ فِي ذِي الْحِجَّةِ ، وَوُلِّيتُ فِي ذِي الْحِجَّةِ ، وَقَدْ هَجَسَ فِي نَفْسِي أَنِّي أَمُوتُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ، وَإِنَّمَا حَدَانِي عَلَى الْحَجِّ ذَلِكَ ، فَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا أَعْهَدُ إِلَيْكَ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدِي ، يَجْعَلْ لَكَ فِيمَا كَرَبَكَ وَحَزَنَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْكَ السَّلَامَةَ وَحُسْنَ الْعَاقِبَةِ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ .
يَا بُنَيَّ احْفَظْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمَّتِهِ ، يَحْفَظْكَ اللَّهُ ( وَيَحْفَظْ ) عَلَيْكَ أُمُورَكَ ، وَإِيَّاكَ وَالدَّمَ وَالْحَرَامَ ، فَإِنَّهُ حُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ، وَعَارٌ فِي الدُّنْيَا لَازِمٌ مُقِيمٌ ، وَالْزَمِ الْحُدُودَ ، فَإِنَّ فِيهَا خَلَاصَكَ فِي الْآجِلِ وَصَلَاحَكَ فِي الْعَاجِلِ ، وَلَا تَعْتَدِ فِيهَا فَتَبُورَ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ عَلِمَ أَنْ شَيْئًا أَصْلَحُ مِنْهَا لِدِينِهِ وَأَزْجَرُ عَنْ مَعَاصِيهِ لَأَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ .
[ ص: 196 ] وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ شِدَّةِ غَضَبِ اللَّهِ لِسُلْطَانِهِ [ أَنَّهُ ] أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِتَضْعِيفِ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى مَنْ سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا مَعَ مَا ذَكَرَ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=33إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا ) الْآيَةَ .
فَالسُّلْطَانُ ، يَا بُنَيَّ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ ، وَعُرْوَتُهُ الْوُثْقَى ، وَدِينُهُ الْقَيِّمُ ، فَاحْفَظْهُ ، وَحَصِّنْهُ ، وَذُبَّ عَنْهُ ، وَأَوْقِعْ بِالْمُلْحِدِينَ فِيهِ ، وَاقْمَعِ الْمَارِقِينَ مِنْهُ ، وَاقْتُلِ الْخَارِجِينَ عَنْهُ بِالْعِقَابِ ، وَلَا تُجَاوِزْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ ، وَاحْكُمْ بِالْعَدْلِ ، وَلَا تُشْطِطْ ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْطَعُ لِلشَّغَبِ ، وَأَحْسَمُ لِلْعَدُوِّ ، وَأَنْجَعُ فِي الدَّوَاءِ .
وَعُفَّ عَنِ الْفَيْءِ ، فَلَيْسَ بِكَ إِلَيْهِ حَاجَةٌ مَعَ مَا خَلَفَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَافْتَتِحْ [ عَمَلَكَ ] بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَبِرِّ الْقَرَابَةِ ، وَإِيَّاكَ وَالْأَثَرَةَ وَالتَّبْذِيرَ لِأَمْوَالِ الرَّعِيَّةِ ، وَاشْحَنِ الثُّغُورَ ، وَاضْبُطِ الْأَطْرَافَ ، وَأَمِّنِ السُّبُلَ ، وَسَكِّنِ الْعَامَّةَ ، وَأَدْخِلِ الْمَرَافِقَ عَلَيْهِمْ ، وَادْفَعِ الْمَكَارِهَ عَنْهُمْ .
وَأَعِدَّ الْأَمْوَالَ ، وَاخْزُنْهَا ، وَإِيَّاكَ وَالتَّبْذِيرَ ، فَإِنَّ النَّوَائِبَ غَيْرُ مَأْمُونَةٍ ، وَهِيَ مِنْ شِيَمِ الزَّمَانِ .
وَأَعِدَّ الْكُرَاعَ وَالرِّجَالَ وَالْجُنْدَ مَا اسْتَطَعْتَ ، وَإِيَّاكَ وَتَأْخِيرَ عَمَلِ الْيَوْمِ إِلَى الْغَدِ ، فَتَتَدَارَكُ عَلَيْكَ الْأُمُورَ وَتَضِيعُ ، جِدَّ فِي إِحْكَامِ الْأُمُورِ النَّازِلَاتِ لِأَوْقَاتِهَا أَوَّلًا [ فَأَوَّلًا ] ، وَاجْتَهِدْ وَشَمِّرْ فِيهَا .
وَأَعِدَّ رِجَالًا بِاللَّيْلِ لِمَعْرِفَةِ مَا يَكُونُ بِالنَّهَارِ ، وَرِجَالًا بِالنَّهَارِ لِمَعْرِفَةِ مَا يَكُونُ بِاللَّيْلِ ، وَبَاشِرِ الْأُمُورَ بِنَفْسِكَ ، وَلَا تَضْجَرْ ، وَلَا تُكْسِلْ ، وَاسْتَعْمِلْ حُسْنَ الظَّنِّ [ بِرَبِّكَ ] ، وَأَسِئَ الظَّنَّ بِعُمَّالِكَ وَكُتَّابِكَ .
وَخُذْ نَفْسَكَ بِالتَّيَقُّظِ ، وَتَفَقَّدْ مَنْ تَثَبَّتَ عَلَى بَابِكَ ، وَسَهِّلْ إِذْنَكَ لِلنَّاسِ ، وَانْظُرْ فِي أَمْرِ النُّزَّاعِ إِلَيْكَ ، وَوَكِّلْ بِهِمْ عَيْنًا غَيْرَ نَائِمَةٍ ، وَنَفْسًا غَيْرَ لَاهِيَةٍ ، وَلَا تَنَمْ ، وَإِيَّاكَ ، فَإِنَّ أَبَاكَ لَمْ يَنَمْ مُنْذُ وَلِيَ الْخِلَافَةَ ، وَلَا دَخَلَ عَيْنَهُ الْغَمْضُ إِلَّا وَقَلْبُهُ مُسْتَيْقِظٌ . هَذِهِ وَصِيَّتِي إِلَيْكَ ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَيْكَ .
ثُمَّ وَدَّعَهُ وَبَكَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ ، ثُمَّ سَارَ إِلَى
الْكُوفَةِ ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَسَاقَ الْهَدْيَ ، وَأَشْعَرَهُ ، وَقَلَّدَهُ لِأَيَّامٍ خَلَتْ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ .
[ ص: 197 ] فَلَمَّا سَارَ مَنَازِلَ مِنَ
الْكُوفَةِ عَرَضَ لَهُ وَجَعُهُ الَّذِي مَاتَ بِهِ وَهُوَ الْقِيَامُ ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ جَعَلَ يَقُولُ
لِلرَّبِيعِ : بَادِرْنِي حَرَمَ رَبِّي هَارِبًا مِنْ ذُنُوبِي ، وَكَانَ
الرَّبِيعُ عَدِيلَهُ ، وَوَصَّاهُ بِمَا أَرَادَ .
فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى
بِئْرِ مَيْمُونٍ مَاتَ بِهَا مَعَ السَّحَرِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَلَمْ يَحْضُرْهُ عِنْدَ وَفَاتِهِ إِلَّا خَدَمُهُ ،
وَالرَّبِيعُ مَوْلَاهُ ، فَكَتَمَ
الرَّبِيعُ مَوْتَهُ ، وَمَنَعَ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَصْبَحَ ، فَحَضَرَ أَهْلُ بَيْتِهِ كَمَا كَانُوا يَحْضُرُونَ .
وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ دَعَا عَمَّهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16746عِيسَى بْنَ عَلِيٍّ ، فَمَكَثَ سَاعَةً ، ثُمَّ أَذِنَ ( لِابْنِ أَخِيهِ
nindex.php?page=showalam&ids=16752عِيسَى ) بْنِ مُوسَى وَكَانَ فِيمَا خَلَا يُقَدَّمُ عَلَى
nindex.php?page=showalam&ids=16746عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ ، ثُمَّ أَذِنَ لِلْأَكَابِرِ وَذَوِي الْأَسْنَانِ مِنْهُمْ ، ثُمَّ لِعَامَّتِهِمْ ، فَبَايَعَهُمُ
الرَّبِيعُ لِلْمَهْدِيِّ ،
وَلِعِيسَى بْنِ مُوسَى بَعْدَهُ عَلَى يَدَيْ
مُوسَى الْهَادِي بْنِ الْمَهْدِيِّ .
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيْعَةِ
بَنِي هَاشِمٍ بَايَعَ الْقُوَّادَ ، وَبَايَعَ عَامَّةَ النَّاسِ ، وَسَارَ
الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ nindex.php?page=showalam&ids=16970وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ إِلَى
مَكَّةَ لِيُبَايِعَا النَّاسَ ، فَبَايَعُوا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ .
وَاشْتَغَلُوا بِتَجْهِيزِ
الْمَنْصُورِ ، فَفَرَغُوا مِنْهُ الْعَصْرَ ، وَكُفِّنَ وَغُطِّيَ وَجْهُهُ وَبَدَنُهُ ، وَجُعِلَ رَأْسُهُ مَكْشُوفًا لِأَجْلِ إِحْرَامِهِ ، وَصَلَّى عَلَيْهِ
nindex.php?page=showalam&ids=16752عِيسَى بْنُ مُوسَى ، وَقِيلَ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ الْمَعْلَاةِ ، وَحَفَرُوا لَهُ مِائَةَ قَبْرٍ لِيُغَمُّوا عَلَى النَّاسِ ، وَدُفِنَ فِي غَيْرِهَا ، وَنَزَلَ فِي قَبْرِهِ
nindex.php?page=showalam&ids=16746عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ ،
وَعِيسَى بْنُ مُحَمَّدٍ ،
وَالْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ ،
وَالرَّبِيعُ وَالرَّيَّانُ مَوْلَيَاهُ ،
وَيَقْطِينُ .
وَكَانَ عُمُرُهُ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً ، وَقِيلَ أَرْبَعًا وَسِتِّينَ ، وَقِيلَ ثَمَانِيًا وَسِتِّينَ سَنَةً ، فَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً إِلَّا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَقِيلَ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَقِيلَ إِلَّا يَوْمَيْنِ .
وَقِيلَ فِي مَوْتِهِ : إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ آخِرَ مَنْزِلٍ بِطَرِيقِ
مَكَّةَ نَظَرَ فِي صَدْرِ الْبَيْتِ ، فَإِذَا فِيهِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَبَا جَعْفَرٍ حَانَتْ وَفَاتُكَ وَانْقَضَتْ سُنُوكُ ، وَأَمْرُ اللَّهِ لَابُدَّ وَاقِعُ
[ ص: 198 ] أَبَا جَعْفَرٍ هَلْ كَاهِنٌ أَوْ مُنَجِّمٌ لَكَ الْيَوْمَ مِنْ حَرِّ الْمَنِيَّةِ مَانِعُ
.
فَأَحْضَرَ مُتَوَلِّيَ الْمَنَازِلِ ، وَقَالَ لَهُ : أَلَمْ آمُرْكَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْمَنَازِلَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ ؟ قَالَ : وَاللَّهِ مَا دَخَلَهَا أَحَدٌ مُنْذُ فُرِغَ [ مِنْهَا ] .
فَقَالَ : اقْرَأْ مَا فِي صَدْرِ الْبَيْتِ ! فَقَالَ : مَا أَرَى شَيْئًا ، فَأَحْضَرَ غَيْرَهُ ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا ، فَأَمْلَى الْبَيْتَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ لِحَاجِبِهِ : اقْرَأْ آيَةً ، فَقَرَأَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=227وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) . فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ ، وَرَحَلَ مِنَ الْمَنْزِلِ تَطَيُّرًا ، فَسَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ ، فَانْدَقَّ ظَهْرُهُ وَمَاتَ ، فَدُفِنَ
بِبِئْرِ مَيْمُونٍ . وَالصَّحِيحُ مَا تَقَدَّمَ .