صفحة جزء
[ ص: 572 ]

ثم دخلت سنة ثماني عشرة ومائتين

ذكر المحنة بالقرآن المجيد

وفي هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداذ في امتحان القضاة والشهود والمحدثين بالقرآن ، فمن أقر أنه مخلوق محدث خلى سبيله ، ومن أبى أعلمه به ليأمره فيه برأيه ، وطول كتابه بإقامة الدليل على خلق القرآن ، وترك الاستعانة بمن امتنع عن القول بذلك ، وكان الكتاب في ربيع الأول ، وأمره بإنفاذ سبعة نفر ، منهم : محمد بن سعد كاتب الواقدي ، وأبو مسلم مستملي يزيد بن هارون ، ويحيى بن معين ، وأبو خيثمة زهير بن حرب ، وإسماعيل بن داود ، ( وإسماعيل ) بن أبي مسعود ، وأحمد بن الدورقي ، فأشخصوا إليه ، فسألهم وامتحنهم عن القرآن ، فأجابوا جميعا : إن القرآن مخلوق . فأعادهم إلى بغداذ ، فأحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره ، وشهر قولهم بحضرة المشايخ من أهل الحديث ، فأقروا بذلك ، فخلى سبيلهم .

وورد كتاب المأمون بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم بامتحان القضاة والفقهاء ، فأحضر إسحاق بن إبراهيم أبا حسان الزيادي ، وبشر بن الوليد الكندي ، وعلي بن أبي مقاتل ، والفضل بن غانم ، والذيال بن الهيثم ، وسجادة ، والقواريري ، و أحمد بن حنبل ، وقتيبة ، وسعدويه الواسطي ، وعلي بن جعد ، وإسحاق بن أبي إسرائيل ، وابن الهرش ، وابن علية الأكبر ، ويحيى بن عبد الرحمن العمري ، وشيخا آخر من ولد [ ص: 573 ] عمر بن الخطاب كان قاضي الرقة ، وأبا نصر التمار ، وأبا معمر القطيعي ، ومحمد بن حاتم بن ميمون ، ومحمد بن نوح المضروب ، وابن الفرخان ، ( وجماعة ، منهم : النضر بن شميل ، وابن علي بن عاصم ، وأبو العوام البزاز ، وابن شجاع ، وعبد الرحمن بن إسحاق ) ، فأدخلوا جميعا على إسحاق ، فقرأ عليهم كتاب المأمون مرتين حتى فهموه ، ثم قال لبشر بن الوليد : ما تقول في القرآن ؟ فقال : قد عرفت مقالتي أمير المؤمنين غير مرة . قال : فقد تجدد من كتاب أمير المؤمنين ما ترى .

فقال : أقول : القرآن كلام الله .

قال : لم أسألك عن هذا ، أمخلوق هو ؟

قال : الله خالق كل شيء .

( قال : فالقرآن شيء ) ؟

قال : نعم .

قال : فمخلوق هو ؟

قال : ليس بخالق .

قال : ( ليس [ أسألك ] عن هذا ) أمخلوق هو ؟

قال : ما أحسن غير ما قلت لك ، ( وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه ، وليس عندي غير ما قلت لك ) .

فأخذ إسحاق رقعة ، فقرأها عليه ووقفه عليها ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، أحدا فردا ، لم يكن قبله شيء [ ولا بعده شيء ] ، ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ، ووجه من الوجوه . قال : نعم .

وقال للكاتب : اكتب ما قال .

ثم قال لعلي بن أبي مقاتل : ما تقول ؟ قال : قد سمعت كلامي لأمير المؤمنين في هذا غير مرة ، وما عندي غيره . فامتحنه بالرقعة ، فأقر بما فيها ، ثم قال له : القرآن مخلوق ؟ قال : القرآن كلام الله . قال : لم أسألك عن هذا . قال : القرآن كلام الله ، فإن [ ص: 574 ] أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا . فقال للكاتب : اكتب مقالته .

ثم قال للذيال نحوا من مقالته لعلي بن أبي مقاتل ، فقال مثل ذلك .

ثم قال لأبي حسان الزيادي : ما عندك ؟ قال : سل عما شئت . فقرأ عليه الرقعة فأقر بما فيها ، ثم قال : ومن لم يقل هذا القول فهو كافر . فقال : القرآن مخلوق هو ؟ قال : القرآن كلام الله ، والله خالق كل شيء ، وأمير المؤمنين إمامنا وبه سمعنا عامة العلم ، وقد سمع ما لم نسمع ، وعلم ما لم نعلم ، وقد قلده الله أمرنا ، فصار يقيم حجنا وصلاتنا ، ونؤدي إليه زكاة أموالنا ، ونجاهد معه ، ونرى إمامته ، فإن أمرنا ائتمرنا ، وإن نهانا انتهينا .

قال : فالقرآن مخلوق ؟ فأعاد مقالته . قال إسحاق : فإن هذه مقالة أمير المؤمنين . قال : قد تكون مقالته ولا يأمر بها الناس ، وإن خبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول قلت ما أمرتني به ، فإنك الثقة فيما أبلغتني عنه . قال : ما أمرني أن أبلغك شيئا . قال أبو حسان : وما عندي إلا السمع والطاعة ، فأمرني أأتمر . قال : ما أمرني أن آمركم ، وإنما أمرني أن أمتحنكم .

ثم قال لأحمد بن حنبل : ما تقول في القرآن ؟ قال : كلام الله . قال : أمخلوق هو ؟ قال : كلام الله ما أزيد عليها .

[ ص: 575 ] فامتحنه بما في الرقعة ، فلما أتى إلى " ليس كمثله شيء " [ قرأ ] : وهو السميع البصير ، وأمسك عن : ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه ، فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر فقال : أصلحك الله ! إنه يقول : سميع من أذن ، وبصير من عين . فقال إسحاق لأحمد : ما معنى قولك : سميع بصير ؟ قال : هو كما وصف نفسه . ( قال : فما معناه ؟ قال : لا أدري أهو هو كما وصف نفسه ) .

ثم دعا بهم رجلا رجلا كلهم يقول القرآن كلام الله ، إلا قتيبة ، وعبيد الله بن محمد بن الحسن ، وابن علية الأكبر ، وابن البكاء ، وعبد المنعم بن إدريس ( ابن بنت ، وهب بن منبه ، والمظفر بن مرجى ، ورجلا من ولد عمر بن الخطاب قاضي الرقة ، وابن الأحمر ، فأما ابن البكاء الأكبر ، فإنه قال : القرآن مجعول ; لقول الله - عز وجل - : إنا جعلناه قرآنا عربيا والقرآن محدث ; لقوله - تعالى - : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث .

قال إسحاق : فالمجعول مخلوق . ( قال : نعم . قال : والقرآن مخلوق ؟ قال : لا أقول : مخلوق ، ولكنه مجعول . فكتب مقالته ومقالات القوم رجلا رجلا ، ووجهت إلى المأمون ، فأجاب المأمون يذمهم ويذكر كلا منهم ، ويعيبه ويقع فيه بشيء ، وأمره أن يحضر بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي ، ويمتحنهما ، فإن أجابا ، وإلا فاضرب أعناقهما ، وأما من سواهما ، فإن أجاب إلى القول بخلق القرآن ، وإلا حملهم موثقين بالحديد إلى عسكره مع نفر يحفظونهم .

[ ص: 576 ] فأحضرهم إسحاق ، وأعلمهم بما أمر به المأمون ، فأجاب القوم أجمعون إلا أربعة نفر ، وهم : أحمد بن حنبل ، وسجادة ، والقواريري ، ومحمد بن نوح المضروب ، فأمر بهم إسحاق فشدوا في الحديد ، فلما كان الغد دعاهم في الحديد ، فأعاد عليهم المحنة ، فأجابه سجادة والقواريري ، فأطلقهما ، وأصر أحمد بن حنبل ، ومحمد بن نوح على قولهما ، فشدا في الحديد ، ووجها إلى طرسوس ، وكتب إلى المأمون بتأويل القوم فيما أجابوا إليه ، فأجابه المأمون : إنني بلغني عن بشر بن الوليد بتأويل الآية التي أنزلها الله - تعالى - في عمار بن ياسر : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ، وقد أخطأ التأويل ، إنما عنى الله - سبحانه وتعالى - بهذه الآية من كان معتقدا للإيمان ، مظهرا للشرك ، فأما من كان معتقدا للشرك ، مظهرا للإيمان ، فليس هذا له .

فأشخصهم جميعا إلى طرسوس ليقيموا بها إلى أن يخرج أمير المؤمنين من بلاد الروم ، فأحضرهم إسحاق ، وسيرهم جميعا إلى العسكر ، وهم : أبو حسان الزيادي ، وبشر بن الوليد ، والفضل بن غانم ، وعلي بن مقاتل ، والذيال بن الهيثم ، ويحيى بن عبد الرحمن العمري ، وعلي بن الجعد ، وأبو العوام ، وسجادة ، والقواريري ، ( وابن الحسن بن ) علي بن عاصم ، وإسحاق بن أبي إسرائيل ، والنضر بن شميل ، وأبو نصر التمار ، وسعدويه الواسطي ، ومحمد بن حاتم بن ميمون ، وأبو معمر بن الهرش ، وابن الفرخان ، وأحمد بن شجاع ، وأبو هارون بن البكاء ، فلما صاروا إلى الرقة بلغهم موت المأمون فرجعوا ( إلى بغداذ ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية