صفحة جزء
ذكر غزوة بني المصطلق من خزاعة

ذكرت هذه الغزوة بعد غزوة ذي قرد ، وكانت في شعبان من السنة ( سنة ست ) ، وكان بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن بني المصطلق تجمعوا له ، وكان قائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما سمع بهم خرج إليهم ، فلقيهم بماء لهم يقال له : المريسيع ، بناحية قديد ، فاقتتلوا ، فانهزم المشركون وقتل من قتل منهم ، وأصيب رجل من المسلمين من بني ليث بن بكر اسمه هشام بن صبابة ، أخو مقيس بن صبابة ، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت بسهم ، وهو يرى أنه من العدو ، فقتله خطأ .

وأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبايا كثيرة ، فقسمها في المسلمين ، وفيهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس ، أو لابن عم له ، فكاتبته عن نفسها ، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستعانته في كتابتها ، فقال لها : هل لك في خير من ذلك ؟ قالت : وما هو يا رسول الله ؟ قال : أقضي كتابتك وأتزوجك . قالت : نعم يا رسول الله . ففعل ، وسمع الناس الخبر ، فقالوا : أصهار رسول الله ، فأعتقوا أكثر من مائة بيت من أهل بني المصطلق ، فما كانت امرأة أعظم بركة على قومها منها .

وبينما الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس ، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار ، يقال له : جهجاه ، فازدحم هو وسنان الجهني ، حليف بني عوف من الخزرج ، على الماء ، فاقتتلا ، فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار ! وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين ! فغضب عبد الله بن أبي ابن سلول ، وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم ، غلام حديث السن . فقال : أقد فعلوها ! قد كاثرونا في بلادنا ! أما والله [ ص: 77 ] لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ! ثم أقبل على من حضره من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم ! أحللتموهم ببلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ! والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم .

فسمع ذلك زيد ، فمشى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك عند فراغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوه ، فأخبره الخبر ، وعنده عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، مر به عباد بن بشر فليقتله . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : كيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ! ولكن أذن بالرحيل . فارتحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ، ليقطع ما الناس فيه .

فلقيه أسيد بن حضير فسلم عليه وقال : يا رسول الله ، لقد رحت في ساعة لم تكن تروح فيها . فقال : أوما بلغك ما قال عبد الله بن أبي ؟ قال : وماذا ؟ قال زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . قال أسيد : فأنت والله تخرجه إن شئت ، فإنك العزيز وهو الذليل ، ثم قال : يا رسول الله ، ارفق به ، فوالله لقد من الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه ، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا .

وسمع عبد الله بن أبي أن زيدا أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله ، فمشى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلف بالله ما قلت ما قال ، ولا تكلمت به . وكان عبد الله في قومه شريفا ، فقالوا : يا رسول الله ، عسى أن يكون الغلام قد أخطأ ، وأنزل الله : إذا جاءك المنافقون تصديقا لزيد ، فلما نزلت أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذن زيد وقال : هذا الذي أوفى الله بأذنه .

وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول ما كان من أمر أبيه ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، بلغني أنك تريد قتل أبي ، فإن كنت فاعلا فمرني به ، فأنا أحمل إليك رأسه ، وأخشى أن تأمر غيري بقتله ، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار .

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : بل نرفق به ، ونحسن صحبته ما بقي معنا . فكان بعد ذلك إذا أحدث حدثا عاتبه قومه ، وعنفوه ، وتوعدوه ، [ ص: 78 ] فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم : كيف ترى ذلك يا عمر ؟ أما والله لو قتلته يوم أمرتني بقتله لأرعدت له آنف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته . فقال عمر : أمر رسول الله أعظم بركة من أمري .

وفيها قدم مقيس بن صبابة مسلما فيما يظهر ، فقال : يا رسول الله ، جئت مسلما ، وجئت أطلب دية أخي ، وكان قتل خطأ ، فأمر له بدية أخيه هشام بن صبابة ، وقد تقدم ذكر قتله آنفا ، فأقام عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير كثير ، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله ، ثم خرج إلى مكة مرتدا فقال :


شفى النفس أن قد بات في القاع مسندا تضرج ثوبيه دماء الأخادع     وكانت هموم النفس من قبل قتله
تلم فتحميني وطاء المضاجع     حللت به نذري وأدركت ثؤرتي
وكنت إلى الأصنام أول راجع



( مقيس بكسر الميم ، وسكون القاف ، وفتح الياء تحتها نقطتان . وصبابة بصاد مهملة ، وبباءين موحدتين بينهما ألف . وأسيد بهمزة مضمومة . وحضير بضم الحاء المهملة ، وفتح الضاد ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية