صفحة جزء
ذكر ابتداء وقعة صفين

لما عاد علي من البصرة بعد فراغه من الجمل قصد الكوفة ، وأرسل إلى جرير بن [ ص: 629 ] عبد الله البجلي ، وكان عاملا على همذان استعمله عثمان ، وإلى الأشعث بن قيس ، وكان على أذربيجان استعمله عثمان أيضا ، يأمرهما بأخذ البيعة والحضور عنده ، فلما حضرا عنده ، أراد علي أن يرسل رسولا إلى معاوية ، قال جرير : أرسلني إليه ، فإنه لي ود . فقال الأشتر : لا تفعل فإن هواه مع معاوية . فقال علي : دعه حتى ننظر ما الذي يرجع إلينا به . فبعثه وكتب معه كتابا إلى معاوية يعلمه فيه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ( ونكث طلحة والزبير وحربه إياهما ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار من طاعته ) .

فسار جرير إلى معاوية ، فلما قدم عليه ماطله واستنظره واستشار عمرا ، فأشار عليه أن يجمع أهل الشام ، ويلزم عليا دم عثمان ويقاتله بهم ، ففعل معاوية ذلك ، وكان أهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان الذي قتل فيه مخضوبا بالدم بأصابع زوجته نائلة ، إصبعان منها وشيء من الكف وإصبعان مقطوعتان من أصولهما ، ونصف الإبهام ، وضع معاوية القميص على المنبر ، وجمع الأجناد إليه ، فبكوا على القميص مدة وهو على المنبر ، والأصابع معلقة فيه ، وأقسم رجال من أهل الشام أن لا يمسهم الماء إلا للغسل من الجنابة ، وأن لا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان ، ومن قام دونهم قتلوه . فلما عاد جرير إلى أمير المؤمنين علي ، وأخبره خبر معاوية ، واجتماع أهل الشام معه على قتاله ، وأنهم يبكون على عثمان ويقولون : إن عليا قتله وآوى قتلته ، وأنهم لا ينتهون عنه حتى يقتلهم أو يقتلوه ، قال الأشتر لعلي : قد كنت نهيتك أن ترسل جريرا ، وأخبرتك بعداوته وغشه ، ولو كنت أرسلتني لكان خيرا من هذا الذي أقام عنده حتى لم يدع بابا يرجو فتحه إلا فتحه ، ولا بابا يخاف منه إلا أغلقه . فقال جرير : لو كنت ثم لقتلوك ، لقد ذكروا أنك من قتلة عثمان . فقال الأشتر : والله لو أتيتهم لم يعيني جوابهم ولحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر ، ولو أطاعني [ فيك ] أمير المؤمنين لحبسك وأشباهك حتى يستقيم هذا الأمر . فخرج جرير إلى قرقيسيا وكتب إلى [ ص: 630 ] معاوية ، فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم عليه .

وقيل : كان الذي حمل معاوية على رد جرير البجلي غير مقضي الحاجة شرحبيل بن السمط الكندي .

وكان سبب ذلك أن شرحبيلا كان قد سيره عمر بن الخطاب إلى العراق إلى سعد بن أبي وقاص وكان معه ، فقدمه سعد وقربه ، فحسده الأشعث بن قيس الكندي لمنافسة بينهما ، فوفد جرير البجلي على عمر ، فقال له الأشعث : إن قدرت أن تنال من شرحبيل عند عمر فافعل . فلما قدم على عمر سأله عمر عن الناس ، فأحسن الثناء على سعد ، قال : وقد قال شعرا :


ألا ليتني والمرء سعد بن مالك وزبرا وابن السمط في لجة البحر     فيغرق أصحابي وأخرج سالما على ظهر
قرقور أنادي أبا بكر

فكتب عمر إلى سعد يأمره بأن يرسل زبرا وشرحبيلا إليه ، فأرسلهما ، فأمسك زبرا بالمدينة وسير شرحبيلا إلى الشام ، فشرف وتقدم ، وكان أبوه السمط من غزة الشام . فلما قدم جرير بكتاب علي إلى معاوية في البيعة انتظر معاوية قدوم شرحبيل ، فلما قدم عليه أخبره معاوية بما قدم فيه جرير ، فقال : كان أمير المؤمنين عثمان خليفتنا ، فإن قويت على الطلب بدمه ، وإلا فاعتزلنا . فانصرف جرير ، فقال النجاشي :


شرحبيل ما للدين فارقت أمرنا     ولكن لبغض المالكي جرير
وقولك ما قد قلت عن أمر أشعث     فأصبحت كالحادي بغير بعير


( جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك ، فنسب إلى جده مالك ) .

وخرج علي فعسكر بالنخيلة ، وتخلف عنه نفر من أهل الكوفة ، منهم : مرة الهمداني ، ومسروق ، أخذا أعطياتهما وقصدا قزوين ، فأما مسروق فإنه كان يستغفر الله [ ص: 631 ] من تخلفه عن علي بصفين ، وقدم عليه عبد الله بن عباس فيمن معه من أهل البصرة ، وبلغ ذلك معاوية ، فاستشار عمرا ، فقال : أما إذا سار علي فسر إليه بنفسك ، ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك . فتجهز معاوية وتجهز الناس وحضهم عمرو وضعف عليا وأصحابه وقال : إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم ، ووهنوا شركتهم ، وفلوا حدهم ، وأهل البصرة مخالفون لعلي بمن قتل منهم ، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل ، وإنما سار علي في شرذمة قليلة ، وقد قتل خليفتكم ، والله الله في حقكم أن تضيعوه ، وفي دمكم أن تطلوه ! وكتب معاوية أهل الشام ، وعقد لواء لعمرو ، ولواء لابنيه عبد الله ومحمد ، ولواء لغلامه وردان . وعقد علي لواء لغلامه قنبر ، فقال عمرو :


هل يغنين وردان عني قنبرا     وتغني السكون عني حميرا
إذا الكماة لبسوا السنورا

فبلغ ذلك عليا فقال :


لأصبحن العاصي ابن العاصي     سبعين ألفا عاقدي النواصي
مجنبين الخيل بالقلاص     مستحقبين حلق الدلاص


فلما سمع معاوية ذلك قال : ما أرى عليا إلا وقد وفى لك . وسار معاوية وتأنى في مسيره ، فلما رأى ذلك الوليد بن عقبة بعث إليه يقول :


ألا أبلغ معاوية بن حرب     فإنك من أخي ثقة مليم
قطعت الدهر كالسدم المعنى     تهدر في دمشق فما تريم
وإنك والكتاب إلى علي     كدابغة وقد حلم الأديم


[ ص: 632 ] يمنيك الإمارة كل ركب     لأنقاض العراق بها رسيم
وليس أخو الترات بمن توانى     ولكن طالب الترة الغشوم
ولو كنت القتيل وكان حيا     لجرد لا ألف ولا غشوم
ولا نكل عن الأوتار حتى     يبيء بها ولا برم جثوم
وقومك بالمدينة قد أبيروا     فهم صرعى كأنهم الهشيم


فكتب إليه معاوية :


ومستعجب مما يرى من أناتنا     ولو زبنته الحرب لم يترمرم



وبعث علي زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف ، وبعث معه شريح ابن هانئ [ في ] أربعة آلاف ، وسار علي من النخيلة ، وأخذ معه من بالمدائن من المقاتلة ، وولى على المدائن سعد بن مسعود ، عم المختار بن أبي عبيد الثقفي . ولما سار علي كان معه نابغة بني جعدة ، فحدا به يوما فقال :


قد علم المصران والعراق     أن عليا فحلها العتاق


[ ص: 633 ] أبيض جحجاح له رواق     إن الأولى جاروك لا أفاقوا
لكم سباق ولهم سباق     قد علمت ذلكم الرفاق



ووجه علي من المدائن معقل بن قيس في ثلاثة آلاف ، وأمره أن يأخذ على الموصل حتى يوافيه على الرقة ، فلما وصل إلى الرقة قال لأهلها ليعملوا له جسرا يعبر عليه إلى الشام ، فأبوا ، وكانوا قد ضموا سفنهم إليهم ، فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج ، وخلف عليهم الأشتر ، فناداهم الأشتر وقال : أقسم بالله لئن لم تعملوا جسرا يعبر عليه أمير المؤمنين لأجردن فيكم السيف ، ولأقتلن الرجال ، ولآخذن الأموال ! فلقي بعضهم بعضا وقالوا : إنه الأشتر ، وإنه قمن أن يفي لكم بما حلف عليه ، أو يأتي بأكثر منه . فنصبوا له جسرا وعبر عليه علي وأصحابه ، وازدحموا عليه ، فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين الأزدي ، فنزل فأخذها ، ثم ركب ، وسقطت قلنسوة عبد الله بن الحجاج الأزدي ، فنزل فأخذها ، ثم قال لصاحبه :


فإن يك ظن الزاجري الطير صادقا     كما زعموا أقتل وشيكا وتقتل

فقال ابن أبي الحصين : ما شيء أحب إلي مما ذكرت ! فقتلا جميعا بصفين .

ولما بلغ علي الفرات دعا زياد بن النضر الحارثي ، وشريح بن هانئ فسرحهما أمامه ( في اثني عشر ألفا ) نحو معاوية على حالهما التي خرجا عليها من الكوفة . وكان سبب عودهما إليه أنهما حيث سيرهما علي من الكوفة أخذا على شاطئ الفرات يلي البر . فلما بلغا عانات بلغهما أن معاوية قد أقبل في جنود الشام ، فقالا : لا والله ما هذا لنا برأي نسير وبيننا وبين المسلمين وأمير المؤمنين هذا البحر ! وما لنا خير في أن نلقى جنود الشام بقلة من معنا . فذهبوا ليعبروا من عانات ، فمنعهم أهلها . فرجعوا فعبروا من هيت ، فلحقوا عليا دون قرقيسيا ، فلما لحقوا عليا قال : مقدمتي تأتيني من ورائي . فأخبره شريح وزياد بما كان ، فقال : سددتما . فلما عبر الفرات سيرهما أمامه ، فلما انتهيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي في جند من أهل الشام ، فأرسلا إلى علي فأعلماه ، فأرسل علي إلى الأشتر وأمره بالسرعة وقال له : إذا قدمت فأنت عليهم ، وإياك أن تبدأ القوم بقتال إلا أن يبدءوك حتى تلقاهم فتدعوهم وتسمع منهم ، ولا يحملك بغضهم على قتالهم قبل دعائهم ، والإعذار إليهم مرة بعد مرة ، واجعل على ميمنتك زيادا ، وعلى ميسرتك شريحا ، ولا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب ، ولا تباعد منهم تباعد من يهاب [ ص: 634 ] البأس حتى أقدم عليك ، فإني حثيث المسير في إثرك - إن شاء الله تعالى - . وكتب علي إلى شريح وزياد بذلك وأمرهما بطاعة الأشتر .

فسار الأشتر حتى قدم عليهم ، واتبع ما أمره وكف عن القتال ، ولم يزالوا متواقفين حتى [ إذا ] كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي ، فثبتوا له واضطربوا ساعة ، ثم انصرف أهل الشام وخرج إليهم من الغد هاشم بن عتبة المرقال ، وخرج إليه أبو الأعور ، فاقتتلوا يومهم ، وصبر بعضهم لبعض ، ثم انصرفوا ، وخرج عليهم الأشتر وقال : أروني أبا الأعور ، وتراجعوا ، ووقف أبو الأعور وراء المكان الذي كان فيه أول مرة ، وجاء الأشتر فصف أصحابه بمكان أبي الأعور بالأمس ، فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي : انطلق إلى أبي الأعور فادعه إلى البراز . فقال : إلى مبارزتي أو مبارزتك ؟ فقال الأشتر : لو أمرتك بمبارزته فعلت ؟ قال : نعم ، والله لو أمرتني أن أعترض صفهم بسيفي لفعلت ! فدعا له وقال : إنما تدعوه لمبارزتي . فخرج إليهم فقال : آمنوني فإني رسول ، فآمنوه ، فانتهى إلى أبي الأعور وقال له : إن الأشتر يدعوك إلى أن تبارزه ، فسكت طويلا ثم قال : إن خفة الأشتر وسوء رأيه حملاه على إجلاء عمال عثمان عن العراق وتقبيح محاسنه ، وعلى أن سار إليه في داره حتى قتله ، فأصبح متبعا بدمه لا حاجة لي في مبارزته . قال له الرسول : قد قلت فاسمع مني أجبك . قال : لا حاجة لي في جوابك ، اذهب عني ! فصاح به أصحابه ، فانصرف عنه ورجع إلى الأشتر فأخبره ، فقال : لنفسه نظر . فوقفوا حتى حجز الليل بينهم ، وعاد الشاميون من الليل ، وأصبح علي غدوة عند الأشتر ، وتقدم الأشتر ومن معه فانتهى إلى معاوية فواقفه ، ولحق بهم علي فتواقفوا طويلا .

ثم إن عليا طلب لعسكره موضعا ينزل فيه ، وكان معاوية قد سبق ، فنزل منزلا اختاره بسيطا واسعا أفيح ، وأخذ شريعة الفرات ، وليس في ذلك الصقع شريعة غيرها ، وجعلها في حيزه ، وبعث عليها أبا الأعور السلمي يحميها ويمنعها ، فطلب أصحاب علي شريعة غيرها فلم يجدوا ، فأتوا عليا فأخبروه بفعلهم وبعطش الناس ، فدعا صعصعة بن صوحان فأرسله إلى معاوية يقول له : إنا سرنا مسيرنا هذا ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم ، فقدمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك ، ونحن من رأينا الكف حتى [ ص: 635 ] ندعوك ونحتج عليك ، وهذه أخرى قد فعلتموها ، منعتم الناس عن الماء والناس غير منتهين ، فابعث إلى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء ، ليكفوا لننظر فيما بيننا وبينكم ، وفيما قدمنا له ، فإن أردت أن نترك ما جئنا له ، ونقتتل على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا .

فقال معاوية لأصحابه : ما ترون ؟ فقال الوليد بن عقبة وعبد الله بن سعد : امنعهم الماء كما منعوه ابن عفان ، اقتلهم عطشا قتلهم الله ! فقال عمرو بن العاص : خل بين القوم وبين الماء ، وإنهم لن يعطشوا وأنت ريان ، ولكن بغير الماء ، فانظر فيما بينك وبين الله . فأعاد الوليد وعبد الله بن سعد مقالتهما وقالا : امنعهم الماء إلى الليل ، فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا ، وكان رجوعهم هزيمة ، امنعهم الماء منعهم الله [ إياه ] يوم القيامة ! قال صعصعة : إنما يمنعه الله الفجرة شربة الخمر ، لعنك الله ولعن هذا الفاسق ! يعني الوليد بن عقبة . فشتموه وتهددوه .

وقد قيل : إن الوليد وابن أبي سرح لم يشهدا صفين .

فرجع صعصعة فأخبره بما كان ، وأن معاوية قال : سيأتيكم رأيي ، فسرب الخيل إلى أبي الأعور ليمنعهم الماء ، فلما سمع علي بذلك قال : قاتلوهم على الماء . فقال الأشعث بن قيس الكندي : أنا أسير إليهم . فسار إليهم ، فلما دنوا منهم ثاروا في وجوههم ، فرموهم بالنبل ، فتراموا ساعة ثم تطاعنوا بالرماح ، ثم صاروا إلى السيوف ، فاقتتلوا ساعة ، وأرسل معاوية يزيد بن أسد البجلي القسري ، جد خالد بن عبد الله القسري ، في الخيل إلى أبي الأعور ، فأقبلوا ، فأرسل علي شبث بن ربعي الرياحي ، فازداد القتال ، فأرسل معاوية عمرو بن العاص في جند كثير ، فأخذ يمد أبا الأعور ويزيد بن أسد ، وأرسل علي الأشتر في جمع عظيم وجعل يمد الأشعث وشبثا ، فاشتد القتال ، فقال عبد الله بن عوف الأزدي الأحمري :


خلوا لنا ماء الفرات الجاري     أو اثبتوا لجحفل جرار
لكل قرم مستميت شاري     طاعن برمحه كرار


[ ص: 636 ] ضراب هامات العدى مغوار (     لم يخش غير الواحد القهار

)

وقاتلوهم حتى خلوا بينهم وبين الماء ، وصار في أيدي أصحاب علي ، فقالوا : والله لا نسقيه أهل الشام ! فأرسل علي إلى أصحابه : أن خذوا من الماء حاجتكم وخلوا عنهم ، فإن الله نصركم ببغيهم وظلمهم . ومكث علي يومين لا يرسل إليهم أحدا ولا يأتيه أحد ، ثم إن عليا دعا أبا عمرو بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري ، وسعيد بن قيس الهمداني ، وشبث بن ربعي التميمي ، فقال لهم : ائتوا هذا الرجل وادعوه إلى الله ، وإلى الطاعة والجماعة . فقال له شبث : يا أمير المؤمنين ألا تطمعه في سلطان توليه إياه ، أو منزلة تكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك ؟ قال : انطلقوا إليه واحتجوا عليه ، وانظروا ما رأيه . وهذا في أول ذي الحجة . فأتوه فدخلوا عليه ، فابتدأ بشير بن عمرو الأنصاري فحمد الله وأثنى عليه وقال : يا معاوية إن الدنيا عنك زائلة ، وإنك راجع إلى الآخرة ، وإن الله محاسبك بعملك ومجازيك عليه ، وإني أنشدك الله أن تفرق جماعة هذه الأمة وأن تسفك دماءها بينها .

فقطع عليه معاوية الكلام وقال : هلا أوصيت بذلك صاحبك ؟ فقال أبو عمرو : إن صاحبي ليس مثلك ، إن صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر ، في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - . قال : فماذا يقول ؟ قال : يأمرك بتقوى الله ( وأن تجيب ) ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق ، فإنه أسلم لك في دنياك ، وخير لك في عاقبة أمرك ! قال معاوية : ونترك دم بن عفان ؟ لا والله لا أفعل ذلك أبدا .

قال : فذهب سعيد بن قيس يتكلم ، فبادره شبث بن ربعي ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا معاوية قد فهمت ما رددت على ابن محصن ، إنه والله لا يخفى علينا ما تطلب ، إنك لم تجد شيئا تستغوي به الناس ، وتستميل به أهواءهم ، وتستخلص به طاعتهم إلا قولك : قتل إمامكم مظلوما ، فنحن نطلب بدمه ، فاستجاب لك سفهاء طغام ، وقد علمنا أنك أبطأت عنه بالنصر ، وأحببت له القتل لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب ، ورب متمني أمر وطالبه يحول الله دونه ، وربما أوتي المتمني أمنيته وفوق أمنيته ، ووالله ما لك في واحدة منهما خير ! والله إن أخطأك ما ترجو ، إنك لشر العرب حالا ! ولئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق من ربك صلي النار ! فاتق الله يا معاوية ، ودع ما أنت عليه ، ولا تنازع الأمر أهله .

[ ص: 637 ] قال : فحمد معاوية الله ثم قال : أما بعد فإن أول ما عرفت به سفهك وخفة حلمك ، أن قطعت على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه ، ثم اعترضت بعد فيما لا علم لك به ، فقد كذبت ولؤمت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما ذكرت ووصفت ! انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم إلا السيف . وغضب ، وخرج القوم . فقال له شبث بن ربعي : أتهول بالسيف ؟ أقسم بالله لنعجلنها إليك .

فأتوا عليا فأخبروه بذلك ، فأخذ علي يأمر الرجل ذا الشرف فيخرج ومعه جماعة من أصحابه ، ويخرج إليه آخر من أصحاب معاوية ومعه جماعة ، فيقتتلان في خيلهما ثم ينصرفان ، وكرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام لما خافوا أن يكون فيه من الاستئصال والهلاك ، فكان علي يخرج مرة الأشتر ومرة حجر بن عدي الكندي ، ومرة شبث بن ربعي ، ومرة خالد بن المعمر ، ومرة زياد بن النضر الحارثي ، ومرة زياد بن خصفة التيمي ، ومرة سعيد بن قيس الهمداني ، ومرة معقل بن قيس الرياحي ، ومرة قيس بن سعد الأنصاري ، وكان الأشتر أكثرهم خروجا . وكان معاوية يخرج إليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وأبا الأعور السلمي ، وحبيب بن مسلمة الفهري ، وابن ذي الكلاع الحميري ، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب ، وشرحبيل بن السمط الكندي ، وحمرة بن مالك الهمداني ، فاقتتلوا أيام ذي الحجة كلها ، وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرتين .

التالي السابق


الخدمات العلمية