موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

صفحة جزء
[ ص: 236 ] بيان المراءى لأجله :

اعلم أن للمرائي مقصودا لا محالة وإنما يرائي لإدراك مال أو جاه أو غرض من الأغراض وله درجات :

أشدها : أن يكون مقصوده التمكن من معصية كالذي يرائي بعباداته ويظهر التقوى والورع وغرضه أن يعرف بالأمانة فيولى منصبا أو يسلم إليه تفرقة مال ليستأثر بما قدر عليه منه ، أو يودع الودائع فيأخذها ، أو يتوصل إلى التحبب بامرأة لفجور ونحوه ، أو يحضر مجالس العلم والتذكير وقصده النظر لأمرد ، فهؤلاء أبغض المرائين إلى الله تعالى لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلما إلى معصيته ، ويقرب منهم من يقترف جريمة ، وهو مصر عليها فيظهر التقوى لينفي التهمة عن نفسه .

ثانيها : أن يكون غرضه نيل حظ من حظوظ الدنيا من مال أو نكاح امرأة جميلة أو شريفة ، كالذي يظهر العلم والعبادة ليرغب في تزويجه أو إعطائه ، فهذا رياء محظور ; لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا ولكنه دون الأول .

الثالثة : أن لا يقصد نيل حظ وإدراك مال أو نكاح ولكن يظهر عباداته خوفا من أن ينظر إليه بعين النقص ، ولا يعد من الخاصة والزهاد ، ويعتقد أنه من جملة العامة ، كالذي يمشي مستعجلا فيطلع عليه الناس فيحسن المشي ويترك العجلة كيلا يقال إنه من أهل اللهو والسهو لا من أهل الوقار .

وكذلك يسبق إلى الضحك أو يبدو منه المزاح فيخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار فيتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء وإظهار الحزن ويقول " ما أعظم غفلة الآدمي عن نفسه " والله يعلم منه أنه لو كان في خلوة لما كان يثقل عليه ذلك وإنما يخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار لا بعين التوقير ، وكالذي يرى جماعة يصلون التراويح ويتهجدون أو يصومون الخميس والاثنين أو يتصدقون فيوافقهم خيفة أن ينسب إلى الكسل ويلحق بالعوام ، ولو خلا بنفسه لكان لا يفعل شيئا من ذلك ، وكالذي يعطش يوم عرفة أو عاشوراء فلا يشرب خوفا من أن يعلم الناس أنه غير صائم ، أو يدعى إلى طعام فيمتنع ليظن أنه صائم ، وقد لا يصرح بـ : إني صائم ولكن يقول : " لي عذر " ، وهو جمع بين خبيثين فإنه يري أنه صائم ثم يري أنه مخلص ليس بمراء ، وأنه يحترز من أن يذكر عبادته للناس فيكون مرائيا فيريد أن يقال إنه ساتر لعبادته ، ثم إن اضطر إلى شرب لم يصبر عن أن يذكر لنفسه فيه عذرا تصريحا أو تعريضا بأن يتعلل بمرض يقتضي فرط العطش ويمنع من الصوم ، أو يقول أفطرت تطييبا لقلب فلان ; لأنه محب للإخوان شديد الرغبة في أن يأكل الإنسان من طعامه ، وقد ألح علي اليوم ولم أجد بدا من تطييب قلبه ، ومثل أن يقول " إن أبوي أو أحدهما يشفقان علي يظنان أن لو صمت لمرضت فلا يدعاني أصوم ، فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء فلا يسبق إلى الإنسان إلا لرسوخ عرق الرياء في الباطن .

[ ص: 237 ] أما المخلص : فإنه لا يبالي كيف نظر الخلق إليه ، فإن لم يكن له رغبة في الصوم ، وقد علم الله منه فلا يريد أن يعتقد غيره ما يخالف علم الله فيكون ملبسا ، وإن كان له رغبة في الصوم لله قنع بعلم الله تعالى ولم يشرك فيه غيره ، وقد يخطر له أن في إظهاره اقتداء غيره به وتحريك رغبة الناس فيه ، وفيه مكيدة وغرور . فهذه درجات الرياء ومراتب أصناف المرائين ، وجميعهم تحت مقت الله وغضبه ومن أشد المهلكات .

التالي السابق


الخدمات العلمية