موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

صفحة جزء
ذكرى ما بعد الموت من البرزخ وأهوال القيامة

كما أن للموت شدة في أحواله وسكراته وخطرا في خوف العاقبة ، كذلك الخطر في مقاساة ظلمة القبر وديدانه ، ثم لمنكر ونكير وسؤالهما ، ثم لعذاب القبر وخطره إن كان مغضوبا عليه ، وأعظم من ذلك كله الأخطار التي بين يديه من نفخ الصور ، والبعث يوم النشور ، والعرض على الجبار ، والسؤال عن القليل والكثير ، ونصب الميزان لمعرفة المقادير ، ثم جواز الصراط ، ثم انتظار النداء عند فصل القضاء إما بالإسعاد وإما بالإشقاء . فهذه أحوال وأهوال لا بد لك من معرفتها ، ثم الإيمان بها على سبيل الجزم والتصديق ، ثم تطويل الفكر في ذلك لينبعث من قلبك دواعي الاستعداد لها . وأكثر الناس لم يدخل الإيمان باليوم الآخر صميم قلوبهم ولم يتمكن من سويداء أفئدتهم ، ويدل على ذلك شدة تشمرهم واستعدادهم لحر الصيف وبرد الشتاء وتهاونهم بحر جهنم وزمهريرها مع ما تكتنفه من المصاعب والأهوال ، بل إذا سئلوا عن اليوم الآخر نطقت به ألسنتهم ثم غفلت عنه قلوبهم ، ومن أخبر بأن ما بين يديه من الطعام مسموم فقال لصاحبه الذي أخبره صدقت ثم مد يده لتناوله كان مصدقا بلسانه ومكذبا بعمله ، وتكذيب العمل أبلغ من تكذيب اللسان . فمثل نفسك وقد بعثت من قبرك مبهوتا من شدة الصعقة شاخص العين نحو النداء ، وقد ثار الخلق ثورة واحدة من القبور التي طال فيها بلاهم وقد أزعجهم الرعب مضافا إلى ما كان عندهم من الهموم والغموم وشدة الانتظار لعاقبة الأمر كما قال الله تعالى : ( ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) [ الزمر : 68 ] فتفكر في الخلائق وذلهم وانكسارهم واستكانتهم انتظارا لما يقضى عليهم من سعادة أو شقاوة ، وأنت فيما بينهم منكسر كانكسارهم ، متحير كتحيرهم ، فكيف حالك وحال قلبك هنالك وقد بدلت الأرض غير الأرض والسموات ، وطمس الشمس والقمر وأظلمت الأرض واشتبك الناس وهم حفاة عراة مشاة ، وازدحموا في الموقف شاخصة أبصارهم منفطرة قلوبهم . فتأمل يا مسكين في طول هذا اليوم ، وشدة الانتظار فيه ، والخجلة والحياء من الافتضاح عند العرض على الجبار تعالى وأنت عار مكشوف ذليل متحير مبهوت منتظر لما يجري عليك القضاء بالسعادة أو بالشقاوة ، وأعظم بهذه الحال فإنها عظيمة ، واستعد لهذا اليوم العظيم شأنه القاهر سلطانه القريب أوانه يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت ( وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ) [ الحج : 2 ] يوم ترى السماء فيه قد انفطرت ، والكواكب من هوله قد انتثرت [ الانفطار : 2 ] ، والنجوم الزواهر قد انكدرت ، والشمس قد كورت ، والجبال قد سيرت ، والعشار قد عطلت ، والوحوش قد حشرت ، والبحار [ ص: 326 ] قد سجرت ، والنفوس إلى الأبدان قد زوجت ، والجحيم قد سعرت ، والجنة قد أزلفت [ الشعراء : 90 ، ق : 31 ، التكوير : 13 ] . وقد وصف الله بعض دواهي يوم القيامة ، وأكثر من أساميه لتقف بكثرة أساميه على كثرة معانيه ، فليس المقصود بكثرة الأسامي تكرير الأسامي والألقاب ، بل الغرض تنبيه أولي الألباب ، فتحت كل اسم من أسماء القيامة سر ، وفي كل نعت من نعوتها معنى ، فاحرص على معرفة معانيها . فمن أساميها : " يوم القيامة " ، " ويوم الحسرة " [ مريم : 39 ] " ويوم الندامة [ يونس : 54 وسبأ : 33 ] ، " ويوم المحاسبة " [ ص : 26 و 53 ] ، " ويوم الزلزلة " [ الحج : 1 والزلزلة : 1 ] ، " ويوم الصاعقة " [الطور : 45 والزمر : 68 ] ، " ويوم الواقعة " [ الواقعة : 1 والحاقة : 13 و 15 ] ، " ويوم القارعة " [ القارعة : 1 ، والحاقة : 4 ] ، " ويوم الغاشية " [ الغاشية : 1 ] ، " ويوم الراجفة " [ النازعات : 6 ] ، " ويوم الحاقة " [ الحاقة : 1 و 2 ] ، " ويوم الطامة " [ النازعات : 34 ] ، " ويوم الصاخة " [ عبس : 33 ] ، " ويوم التلاق " [ غافر : 15 ] ، " ويوم التناد " [ غافر : 32 ] ، " ويوم الجزاء " [ غافر : 17 ] ، " ويوم الوعيد " [ ق : 20 ] ، " ويوم العرض " [ الكهف : 48 ] ، " ويوم الوزن " [ الأعراف : 8 و 9 ] ، " ويوم الفصل " [ الصافات : 21 والنبأ : 17 والمرسلات : 38 ] ، " ويوم الجمع " [ الشورى : 7 ] ، " ويوم البعث " [ الروم : 56 ] ، " ويوم الخزي " [ آل عمران : 192 والنحل : 27 ] ، " ويوم عسير " [ الفرقان : 26 والمدثر : 9 ] ، " ويوم الدين " [ الحجر : 35 والصافات : 20 ] ، " ويوم النشور " [ الملك : 15 والقمر : 7 ] ، " ويوم الخلود " [ ق : 34 ] ، " ويوم لا ريب فيه " [ آل عمران : 9 والنساء : 87 ] ، " ويوم لا تجزي نفس عن نفس شيئا " [ البقرة : 48 ، 123 ] ، " ويوم تشخص فيه الأبصار " [ إبراهيم : 42 ] ، و ( يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ) [ عبس : 34 - 36 ] ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) [ الشعراء : 88 ، 89 ] .

فالويل كل الويل للغافلين ، يرسل الله لنا سيد المرسلين ، وينزل عليه الكتاب المبين ، ويخبرنا بهذه الصفات من نعوت يوم الدين ، ثم يعرفنا غفلتنا ويقول : ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم ) [ الأنبياء : 1 - 3 ] ثم يعرفنا قرب القيامة فيقول : ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) [ القمر : 1 ] ( إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ) [ المعارج : 6 و 7 ] ( وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ) [ الأحزاب : 63 ] ثم يكون أحسن أحوالنا أن نتخذ دراسة هذا القرآن عملا فلا نتدبر معانيه ، ولا ننظر في كثرة أوصاف هذا اليوم وأساميه ، ولا نستعد للتخلص من دواهيه .

فنعوذ بالله من هذه الغفلة إن لم يتداركنا الله بواسع رحمته .

التالي السابق


الخدمات العلمية