صفحة جزء
ومما وقع في عبارة العلماء من إطلاق ضرب المثل على الاستدلال ، ما وقع في عبارة ابن الصلاح في جزئه الذي ألفه في صلاة الرغائب ، حيث ذكر إنكار الشيخ عز الدين بن عبد السلام لها ، وقال : إنه ضرب له المثل بقوله : ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) .

وأما الفصل السابع من الشفا الذي قال المعترض : إن المسألة فيه ، فنذكره ؛ ليعلم من علم واقعة الحال أنه غير مطابق لها ، قال القاضي عياض : الوجه السابع : أن يذكر ما يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يختلف في جوازه عليه ، وما يطرأ من الأمور البشرية له ، ويمكن إضافتها إليه أو يذكر ما امتحن به وصبر في ذات الله على شدته من مقاساة أعدائه ، وأذاهم له ، ومعرفة ابتداء حاله وسيرته ، وما لقيه من بؤس زمنه ، ومر عليه من معاناة عيشته ، كل ذلك على طريق الرواية ومذاكرة العلم ومعرفة ما صحت عنه العصمة للأنبياء وما يجوز عليهم ، فهذا فن خارج عن [ هذه ] الفنون الستة ، إذ ليس فيه غمض ، ولا نقص ، ولا إزراء ، ولا استخفاف لا في ظاهر اللفظ ولا في مقصد اللافظ ، لكن يجب أن يكون الكلام فيه مع أهل العلم وفهماء طلبة الدين ممن يفهم مقاصده ويحقق فوائده ، ويجنب ذلك من عساه لا يفهمه أو يخشى به فتنته ، فقد كره بعض السلف تعليم النساء سورة يوسف ؛ لما انطوت [ ص: 278 ] عليه من تلك القصص ؛ لضعف معرفتهن ، ونقص عقولهن ، وإدراكهن .

هذا كلام القاضي في الفصل السابع فانظر كيف فرض المسألة في رواية الحديث ومذاكرة العلم ، ثم لم يطلق ذلك ، بل قيده بأن يكون الكلام فيه مع أهل العلم وفهماء الطلبة ، وهذه الواقعة لم تكن في مذاكرة العلم ، ولم يحضرها طالب علم البتة ، بل كانت في السباب والخصام في سوق الغزل ، بحضرة جمع من التجار والدلالين والسوقة وكلهم عوام ، وأكثرهم سفهاء الألسنة يطلقون ألسنتهم في كثير من الأمور بما يوجب سفك دمائهم ، ولا يعلمون عاقبة ذلك ، فيقال لمن أنكر ما أفتيت به : إن لم تعرف عين الواقعة فأنت معذور ، وقولك : لا تعزير ولا عثرة إن أردت فيما وقع في مجلس الدرس ومذاكرة العلم بين أهله فمسلم ، وليس هو صورة الواقعة ، وإن أردت ما وقع في السوق بالصفة المشروحة فمعاذ الله ، وحاشى المفتين أن يقولوا ذلك .

وبعد هذا كله فلست أقصد بذلك غضا من القائل ، ولا حطا عليه ، فإني أعتقد دينه ، وخيره ، وصلاحه ، وإنما هي بادرة بدرت وزلة فرطت ، وعثرة وقعت فليستغفر الله منها ويتب إليه ويندم على ما وقع منه ولا يعد ، ولا يقدح ذلك في صلاحه ؛ فإن الشيخ عز الدين بن عبد السلام قال في قواعده : من ظن أن الصغيرة تنقص الولاية فقد جهل ، وقال : إن الولي إذا وقعت منه الصغيرة فإنه لا يجوز للأئمة والحكام تعزيره عليها .

ونص الشافعي - رضي الله عنه - على أن ذوي الهيئات لا يعزرون للحديث ، وفسرهم بأنهم الذين لا يعرفون بالشر ، فيزل أحدهم الزلة فيترك ، وفسرهم بعض الأصحاب أنهم أصحاب الصغائر دون الكبائر ، وفسرهم بعضهم بأنهم الذين إذا وقع منهم الذنب تابوا وندموا ، والأحاديث الواردة في إقالة ذوي الهيئات عثراتهم كثيرة ، أخرج أحمد في مسنده ، والبخاري في الأدب ، وأبو داود ، والنسائي عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود " ، وأخرجه النسائي من وجه آخر بلفظ : " تجاوزوا عن زلة ذي الهيئة " ، وأخرجه باللفظ الأول الطبراني في الكبير من حديث ابن مسعود ، وابن عدي في الكامل من حديث أنس ، وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير من حديث زيد بن ثابت بلفظ : " تجافوا عن عقوبة ذي المروءة إلا في حد من حدود الله " .

وأخرجه في المعجم الأوسط من حديث ابن عباس بلفظ : " تجافوا عن ذنب السخي فإن الله آخذ بيده كلما عثر " ، وأخرجه بهذا اللفظ [ ص: 279 ] من حديث ابن مسعود الطبراني في الكبير ، وأبو نعيم في الحلية ، وقال الشيخ تقي الدين السبكي في كتابه - طريق المعدلة في قتل من لا وارث له : قول الأصحاب إن من قتل قتيلا لا وارث له فللسلطان الخيرة : بين أن يقتص منه ، أو يعفو عن الدية ، وليس له العفو مجانا ، كأنهم ذكروه على الغالب ، وقد يظهر للإمام من المصلحة ما يقتضي العفو عنه مجانا إذا كان لا مال له ، ولا يقدر على الكسب ، وفيه صلاح وخير ونفع للمسلمين ، ولكن فرطت منه تلك البادرة فقتل بها وظهرت توبته وحسنت طريقته ، فالقول بأن هذا لا يجوز للإمام العفو عنه بعيد ، لا سيما إذا لم يكن بالمسلمين حاجة إلى ذلك القدر الذي يؤخذ منه .

فالرأي عندي أن يكون ذلك مفوضا إلى رأي الإمام ، والإمام يجب عليه فيما بينه وبين الله أن لا يختار إلا ما فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين ، ولا يقدم على سفك دم مسلم بمجرد ما يقال له : إن هذا جائز فجوازه منوط بظهور المصلحة فيه للمسلمين ، ولإقامة الدين لا لحظ نفسه ولا لغرض من أغراض الدنيا ، وحيث شك في ذلك يتعين الكف عن الدم ، وتبقية ذلك الشخص ؛ لأنه نفس معصومة إلا بحقها ، فمتى قتلها من غير مرجح أخشى عليه أن يدخل فيمن قتلها بغير حقها ، انتهى كلام السبكي .

فإذا جوز السبكي العفو عمن فيه صلاح وخير ونفع للمسلمين من القتل قصاصا مجانا ، بلا دية ، فمن تعزير زلة فرطت منه من باب أولى ، وهذا لا شبهة فيه .

عود لبدء : قال ابن السبكي في كتابه الترشيح : قال الشافعي - رضي الله عنه - في بعض نصوصه : وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة لها شرف ، فكلم فيها فقال : " لو سرقت فلانة - لامرأة شريفة - لقطعت يدها " قال ابن السبكي : فانظر إلى قوله " فلانة " ، ولم يبح باسم فاطمة ؛ تأدبا معها - رضي الله عنها - أن يذكرها في هذا المعرض ، وإن كان أبوها صلى الله عليه وسلم قد ذكرها ؛ لأن ذلك منه صلى الله عليه وسلم حسن دال على أن الخلق عنده في الشرع سواء انتهى .

فهذا من صنع الشافعي ، ثم من تقرير السبكي أصل في هذه المسألة ونقل من حيث مذهبنا ، فقوله : تأدبا يدل على أن ضده خلاف الأدب ، وقوله : لأن ذلك منه صلى الله عليه وسلم حسن يدل على أنه من غيره قبيح ، هذا مع كون الشافعي - رضي الله عنه - إنما ساق الحديث مساق الاحتجاج على المسائل الشرعية ، ومساق تقرير العلم في التصنيف الذي لا يقف عليه إلا أهله ، بل لو صرح بالاسم في مثل هذا المحل لم يكن فيه شيء ، وأمر آخر : أن النقص المذكور واقع في حيز " لو " ، منفي عنها لا مثبت لها ، وإنما ذكر على سبيل الفرض الذي لا سبيل إلى وقوعه ، فكيف يظن بالشافعي أنه يخالف ما قرره المالكية في المسألة التي نحن فيها ؟ [ ص: 280 ] وإنما ذكرت هذا الكلام ؛ لأن قائلا قال : هذا الذي أفتيت به مذهب المالكية ، وليس بمنصوص في مذهبك .

وكذا يقع لأهل العصر كثيرا ، يدعون علينا في فتاوى كثيرة أنها مخالفة للمذهب ، بمجرد كونها غير منصوصة لا بنفي ولا بإثبات ، كما وقع لنا في العام الماضي حين أفتينا بهدم الدار التي بنيت برسم الفساد ، فادعوا أن ذلك خلاف المذهب بمجرد كون الأصحاب لم ينصوا عليها ، على أن الغزالي وغيره أشاروا إليها كما بيناه في التأليف الذي ألفناه فيها ، ثم نقول في هذه وغيرها : قولهم ما أفتيت به خلاف المذهب ، مستدلين على ذلك بعدم وجود المسألة منصوصا عليها معارض بأنا نقول لهم : ما أفتيتم أنتم به أيضا خلاف المذهب ؛ لأن المسألة غير منصوص عليها ، فكما استندتم إلى العدم في نسبة الخلاف إلي استندت إلى العدم في نسبته إليكم ، فإن الإثبات والنفي كلاهما حكم شرعي ، يحتاج إلى دليل ، أو نقل ، فإن قالوا : أخذناه من القواعد قلت : وأنا أيضا أخذت من القواعد .

وعلى بيان ذلك لمن يريد الإنصاف ، فمن قال : التعزير في هذه المسألة خلاف المذهب ؛ لأن الأصحاب لم ينصوا عليها ، أقول له : فهل نص الأصحاب على أنه لا تعزير فيها حتى تقدم على القول به ، وتنسبه إلى مذهب الشافعي ؟ وكذلك من قال : القول بهدم الدار الموصوفة بالصفات التي شرحتها في تأليفها خلاف المذهب ؛ لأنه لم ينص عليها ، أقول له : فهل نصوا على أنها لا تهدم حتى استندت إليه ؟ وإذا حصل الاستواء في الجانبين من حيث عدم النص وجدت النقول في المذاهب بأحدهما ، والأدلة ثابتة عليه من الأحاديث والآثار ، وجب الوقوف عنده ، وعدم التجاوز إلى الجانب الآخر إذا لم يكن في قواعد مذهبنا ما يخالفه .

وقد وقع في فتاوى ابن الصلاح أنه سئل عن مسألة لا نص فيها للأصحاب ، فأفتى فيها بالمنصوص في مذهب أبي حنيفة وبين ذلك ، وقرر النووي في شرح المهذب مسألة لا نقل فيها عندنا ، وأجاب فيها بمذهب الحسن البصري ، وقال : إنه ليس في قواعدنا ما ينفيه ، وسئل البلقيني عن مسألة فقال : لا نقل فيها عندنا ، وأجاب فيها بما ذكره القاضي عياض في المدارك ، وذكر بعض الأصحاب مسألة لا نقل فيها عندنا ، وأفتى فيها بالمنقول في مذهب الحنابلة .

وذكر الزركشي في " الخادم " مسألة مسح الخف للمحرم ، وقال : لا نقل فيها ، وأجاب بالمنقول في مذهب المالكية في أشياء كثيرة لا تحصى ، وقد استوعبتها في كتابي " الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع " ، ومسألة الهدم نص عليها أئمة المذاهب الثلاثة ، وأشار إليها الغزالي وطائفة ، وثبتت فيها الأحاديث الصحيحة ، والآثار الكثيرة عن عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وابن [ ص: 281 ] مسعود ، وابن الزبير ، وابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، وغيرهم سلفا وخلفا ، قولا وفعلا ، ولا نص في مذهبنا يخالف ذلك إلا قولهم : إنه لا تعزير بإتلاف المال ، وهذه القاعدة مخصوصة ليست على عمومها بدليل قولهم : إنه لا يكسر آنية الخمر والأواني المثمنة إذا كان فيها صورة إلى غير ذلك ، فعلم أن القاعدة مخصوصة بما لم يتعين إتلافه طريقا لإزالة الفساد ، وتقرير ذلك بإيضاحه يستدعي طولا ، وقد بسطته في التأليف المشار إليه .

وكذلك نقول في هذه المسألة : قد نص أئمة المالكية على التعزير فيها ، ولم ينص أصحابنا على خلافه ، ولا في قواعد مذهبنا ما ينفيه ، فوجب الوقوف عنده ، والعمل به ، وهذا النص الذي أوردناه عن الشافعي - رضي الله عنه - يصلح أصلا في المسالة ، وتقرير السبكي له وإيضاحه زاده بيانا وحسنا ، وسأتتبع ذلك من نصوص الشافعي والأصحاب في كتبهم في الفقه وشروحهم للحديث ما أراه مقويا لذلك فأذكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية