صفحة جزء
ذكر الأحاديث الدالة على استحباب الجهر بالذكر تصريحا أو التزاما

الحديث الأول : أخرج البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " والذكر في الملأ لا يكون إلا عن جهر .

[ ص: 467 ] الحديث الثاني : أخرج البزار ، والحاكم في المستدرك وصححه عن جابر قال : خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا أيها الناس ، إن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر في الأرض ، فارتعوا في رياض الجنة " ، قالوا : وأين رياض الجنة ؟ قال : " مجالس الذكر ، فاغدوا وروحوا في ذكر الله " .

الحديث الثالث : أخرج مسلم والحاكم - واللفظ له - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لله ملائكة سيارة وفضلاء ، يلتمسون مجالس الذكر في الأرض ، فإذا أتوا على مجلس ذكر حف بعضهم بعضا بأجنحتهم إلى السماء ، فيقول الله : من أين جئتم ؟ فيقولون : جئنا من عند عبادك يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويهللونك ويسألونك ويستجيرونك ، فيقول : ما يسألون ؟ وهو أعلم ، فيقولون : يسألونك الجنة ، فيقول : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا يا رب ، فيقول : فكيف لو رأوها ، ثم يقول : ومم يستجيروني ؟ وهو أعلم بهم ، فيقولون : من النار ، فيقول : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا ، فيقول : فكيف لو رأوها ؟ ثم يقول : اشهدوا أني قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوني وأجرتهم مما استجاروني ، فيقولون : ربنا ، إن فيهم عبدا خطاء جلس إليهم وليس منهم ، فيقول : وهو أيضا قد غفرت له ، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم " .

الحديث الرابع : أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده " .

الحديث الخامس : أخرج مسلم والترمذي عن معاوية " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال : ما يجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده ، فقال : إنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة " .

الحديث السادس : أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكثروا ذكر الله حتى يقولوا : مجنون " .

الحديث السابع : أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي الجوزاء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكثروا ذكر الله حتى يقول المنافقون : إنكم مراءون " مرسل ، ووجه الدلالة من هذا والذي قبله أن ذلك إنما يقال عند الجهر دون الإسرار .

الحديث الثامن : أخرج البيهقي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مررتم برياض [ ص: 468 ] الجنة فارتعوا " قالوا : يا رسول الله ، وما رياض الجنة ؟ قال : " حلق الذكر " .

الحديث التاسع : أخرج بقي بن مخلد عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين ، أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه ، والآخر يعلمون العلم ، فقال : " كلا المجلسين خير ، وأحدهما أفضل من الآخر " .

الحديث العاشر : أخرج البيهقي عن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله إلا ناداهم مناد من السماء : قوموا مغفورا لكم ، قد بدلت سيئاتكم حسنات " .

الحديث الحادي عشر : أخرج البيهقي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الرب تعالى يوم القيامة : سيعلم أهل الجمع اليوم من أهل الكرم ، فقيل : ومن أهل الكرم يا رسول الله ؟ قال : مجالس الذكر في المساجد " .

الحديث الثاني عشر : أخرج البيهقي عن ابن مسعود قال : إن الجبل لينادي الجبل باسمه : يا فلان ، هل مر بك اليوم لله ذاكر ؟ فإن قال : نعم ، استبشر ، ثم قرأعبد الله : ( لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه ) الآية ، وقال : أيسمعون الزور ولا يسمعون الخير ؟

الحديث الثالث عشر : أخرج ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس في قوله : ( فما بكت عليهم السماء والأرض ) قال : إن المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض الموضع الذي كان يصلي فيه ويذكر الله فيه ، وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي عبيد قال : إن المؤمن إذا مات نادت بقاع الأرض : عبد الله المؤمن مات ، فتبكي عليه الأرض والسماء ، فيقول الرحمن : ما يبكيكما على عبدي ؟ فيقولون : ربنا لم يمش في ناحية منا قط إلا وهو يذكرك . وجه الدلالة من ذلك أن سماع الجبال والأرض للذكر لا يكون إلا عن الجهر به .

الحديث الرابع عشر : أخرج البزار والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله تعالى : عبدي ، إذا ذكرتني خاليا ذكرتك خاليا ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم وأكثر " .

الحديث الخامس عشر : أخرج البيهقي عن زيد بن أسلم قال : قال ابن الأدرع : [ ص: 469 ] انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة ، فمر برجل في المسجد يرفع صوته ، قلت : يا رسول الله ، عسى أن يكون هذا مرائيا ، قال : " لا ، ولكنه أواه " . وأخرج البيهقي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له : ذو البجادين : إنه أواه ، وذلك أنه كان يذكر الله ، وأخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله أن رجلا كان يرفع صوته بالذكر ، فقال رجل : لو أن هذا خفض من صوته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعه فإنه أواه " .

الحديث السادس عشر : أخرج الحاكم عن شداد بن أوس قال : " إنا لعند النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال : ارفعوا أيديكم فقولوا : لا إله إلا الله ، ففعلنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إنك بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها ووعدتني عليها الجنة ، إنك لا تخلف الميعاد ، ثم قال : أبشروا فإن الله قد غفر لكم " .

الحديث السابع عشر : أخرج البزار عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله سيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر ، فإذا أتوا عليهم حفوا بهم ، فيقول الله تعالى : غشوهم برحمتي فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم " .

الحديث الثامن عشر : أخرج الطبراني وابن جرير عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) الآية ، فخرج يلتمسهم فوجد قوما يذكرون الله تعالى ، منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد ، فلما رآهم جلس معهم وقال : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم " .

الحديث التاسع عشر : أخرج الإمام أحمد في الزهد عن ثابت قال : " كان سلمان في عصابة يذكرون الله فمر النبي صلى الله عليه وسلم فكفوا فقال : ما كنتم تقولون ؟ قلنا : نذكر الله ، قال : إني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأحببت أن أشارككم فيها ، ثم قال : الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم " .

الحديث العشرون : أخرج الأصبهاني في الترغيب عن أبي رزين العقيلي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : ألا أدلك على ملاك الأمر الذي تصيب به خيري الدنيا والآخرة ؟ قال : بلى ، قال : عليك بمجالس الذكر ، وإذا خلوت فحرك لسانك بذكر الله " .

[ ص: 470 ] الحديث الحادي والعشرون : أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي والأصبهاني عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ولأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلي من الدنيا وما فيها " .

الحديث الثاني والعشرون : أخرج الشيخان عن ابن عباس قال : إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عباس : كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته .

الحديث الثالث والعشرون : أخرج الحاكم عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ، ورفع له ألف ألف درجة ، وبنى له بيتا في الجنة " وفي بعض طرقه : " فنادى " .

الحديث الرابع والعشرون : أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه عن السائب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جاءني جبريل فقال : مر أصحابك يرفعوا أصواتهم بالتكبير .

الحديث الخامس والعشرون : أخرج المروزي في كتاب العيدين عن مجاهد أن عبد الله بن عمر وأبا هريرة كانا يأتيان السوق أيام العشر فيكبران ، لا يأتيان السوق إلا لذلك ، وأخرج أيضا عن عبيد بن عمير قال : كان عمر يكبر في قبته فيكبر أهل المسجد فيكبر أهل السوق ، حتى ترتج منى تكبيرا ، وأخرج أيضا عن ميمون بن مهران قال : أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهها بالأمواج من كثرتها .

فصل : إذا تأملت ما أوردنا من الأحاديث عرفت من مجموعها أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر ، بل فيه ما يدل على استحبابه إما صريحا أو التزاما ، كما أشرنا إليه ، وأما معارضته بحديث : " خير الذكر الخفي " فهو نظير معارضة أحاديث الجهر بالقرآن بحديث : " المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة " وقد جمع النووي بينهما بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى به مصلون أو نيام ، والجهر أفضل في غير ذلك ؛ لأن العمل فيه أكثر ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين ، ولأنه يوقظ قلب القارئ ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ويطرد النوم ويزيد في النشاط ، وقال بعضهم : يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار [ ص: 471 ] ببعضها ؛ لأن المسر قد يمل فيأنس بالجهر ، والجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار . انتهى ، وكذلك نقول في الذكر على هذا التفصيل ، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث .

فإن قلت : قال الله تعالى : ( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول ) قلت : الجواب عن هذه الآية من ثلاثة أوجه :

الأول : أنها مكية كآية الإسراء : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) وقد نزلت حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومن أنزله ، فأمر بترك الجهر سدا للذريعة ، كما نهي عن سب الأصنام لذلك في قوله تعالى : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) وقد زال هذا المعنى ، وأشار إلى ذلك ابن كثير في تفسيره .

الثاني : أن جماعة من المفسرين ، منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم شيخ مالك ، وابن جرير حملوا الآية على الذاكر حال قراءة القرآن ، وأنه أمر له بالذكر على هذه الصفة تعظيما للقرآن أن ترفع عنده الأصوات ، ويقويه اتصالها بقوله : ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قلت : وكأنه لما أمر بالإنصات خشي من ذلك الإخلاد إلى البطالة ، فنبه على أنه وإن كان مأمورا بالسكوت باللسان إلا أن تكليف الذكر بالقلب باق حتى لا يغفل عن ذكر الله ، ولذا ختم الآية بقوله : ( ولا تكن من الغافلين )

. الثالث : ما ذكره الصوفية أن الأمر في الآية خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم الكامل المكمل ، وأما غيره ممن هو محل الوساوس والخواطر الردية فمأمور بالجهر ؛ لأنه أشد تأثيرا في دفعها ، قلت : ويؤيده من الحديث ما أخرجه البزار عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى منكم بالليل فليجهر بقراءته ؛ فإن الملائكة تصلي بصلاته وتسمع لقراءته ، وإن مؤمني الجن الذين يكونون في الهواء وجيرانه معه في مسكنه يصلون بصلاته ويستمعون قراءته ، وإنه ينطرد بجهره بقراءته عن داره وعن الدور التي حوله فساق الجن ومردة الشياطين " .

فإن قلت : فقد قال تعالى : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ) وقد فسر الاعتداء بالجهر في الدعاء ، قلت : الجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن الراجح في تفسيره أنه تجاوز المأمور به أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع ، ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه والحاكم في مستدركه وصححه عن أبي نعامة رضي الله عنه " أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة ، فقال : إني سمعت [ ص: 472 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء " فهذا تفسير صحابي وهو أعلم بالمراد .

الثاني : على تقدير التسليم ، فالآية في الدعاء لا في الذكر ، والدعاء بخصوصه الأفضل فيه الإسرار ؛ لأنه أقرب إلى الإجابة ، ولذا قال تعالى : ( إذ نادى ربه نداء خفيا ) ومن ثم استحب الإسرار بالاستعاذة في الصلاة اتفاقا ؛ لأنها دعاء ، فإن قلت : فقد نقل عن ابن مسعود أنه رأى قوما يهللون برفع الصوت في المسجد فقال : ما أراكم إلا مبتدعين ، حتى أخرجهم من المسجد . قلت : هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم ، وعلى تقدير ثبوته فهو معارض بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة ، وهي مقدمة عليه عند التعارض ، ثم رأيت ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود ، قال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد : ثنا حسين بن محمد ، ثنا المسعودي ، عن عامر بن شقيق ، عن أبي وائل قال : هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله كان ينهى عن الذكر ، ما جالست عبد الله مجلسا قط إلا ذكر الله فيه . وأخرج أحمد في الزهد عن ثابت البناني قال : إن أهل ذكر الله ليجلسون إلى ذكر الله ، وإن عليهم من الآثام أمثال الجبال ، وإنهم ليقومون من ذكر الله تعالى ما عليهم منها شيء .

التالي السابق


الخدمات العلمية