صفحة جزء
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن لفظ ( المشرك ) هل يتناول الكفار من أهل الكتاب ، فأنكر بعضهم ذلك ، والأكثرون من العلماء على أن لفظ ( المشرك ) يندرج فيه الكفار من أهل الكتاب ، وهو المختار ، ويدل عليه وجوه :

أحدها : قوله تعالى : ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ) [التوبة : 30] ثم قال في آخر الآية : ( سبحانه عما يشركون ) [التوبة : 31] وهذه الآية صريحة في أن اليهودي والنصراني مشركان .

وثانيها : قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [النساء : 48] دلت هذه الآية على أن ما سوى الشرك قد يغفره الله تعالى في الجملة ، فلو كان كفر اليهودي والنصراني ليس بشرك لوجب بمقتضى هذه الآية أن يغفر الله تعالى في الجملة ، ولما كان ذلك باطلا علمنا أن كفرهما شرك

وثالثها : قوله تعالى : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) [المائدة : 73] فهذا التثليث إما أن يكون لاعتقادهم وجود صفات ثلاثة ، أو لاعتقادهم وجود ذوات ثلاثة ، والأول باطل ; لأن المفهوم من كونه تعالى عالما غير المفهوم من كونه قادرا ومن كونه حيا ، وإذا كانت هذه المفهومات الثلاثة لا بد من الاعتراف بها ، كان القول بإثبات صفات ثلاثة من ضرورات دين الإسلام ، فكيف يمكن تكفير النصارى بسبب ذلك ، ولما بطل ذلك علمنا أنه تعالى إنما كفرهم ؛ لأنهم أثبتوا ذواتا ثلاثة قديمة مستقلة ، ولذلك فإنهم جوزوا في أقنوم الكلمة أن يحل في عيسى ، وجوزوا في أقنوم الحياة أن يحل في مريم ، ولولا أن هذه الأشياء المسماة عندهم بالأقانيم ذوات قائمة بأنفسها ، لما جوزوا عليها الانتقال من ذات إلى ذات ، فثبت أنهم قائلون بإثبات ذوات قائمة بالنفس قديمة أزلية ، وهذا شرك ، وقول بإثبات الآلهة ، فكانوا مشركين ، وإذا ثبت دخولهم تحت اسم المشرك ; وجب أن يكون اليهودي كذلك ضرورة أنه لا قائل بالفرق .

ورابعها : ما روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر أميرا وقال : إذا لقيت عددا من المشركين فادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وإن أبوا فادعهم إلى الجزية وعقد الذمة ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، سمى [ ص: 49 ] من يقبل منه الجزية وعقد الذمة بالمشرك ، فدل على أن الذمي يسمى بالمشرك .

وخامسها : ما احتج به أبو بكر الأصم فقال : كل من جحد رسالته فهو مشرك ، من حيث إن تلك المعجزات التي ظهرت على يده كانت خارجة عن قدرة البشر ، وكانوا منكرين صدورها عن الله تعالى ، بل كانوا يضيفونها إلى الجن والشياطين ; لأنهم كانوا يقولون فيها : إنها سحر وحصلت من الجن والشياطين ، فالقوم قد أثبتوا شريكا لله سبحانه في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر ، فوجب القطع بكونهم مشركين ; لأنه لا معنى للإله إلا من كان قادرا على خلق هذه الأشياء . واعترض القاضي فقال : إنما يلزم هذا إذا سلم اليهودي أن ما ظهر على يد محمد صلى الله عليه وسلم من الأمور الخارجة عن قدرة البشر ، فعند ذلك إذا أضافه إلى غير الله تعالى كان مشركا ، أما إذا أنكر ذلك وزعم أن ما ظهر على يد محمد صلى الله عليه وسلم من جنس ما يقدر العباد عليه لم يلزم أن يكون مشركا بسبب [نسبته] ذلك إلى غير الله تعالى .

والجواب : أنه لا اعتبار بإقراره أن تلك المعجزات خارجة عن مقدور البشر أم لا ، إنما الاعتبار يدل على أن ذلك المعجز خارج عن قدرة البشر ، فمن نسب ذلك إلى غير الله تعالى كان مشركا ، كما أن إنسانا لو قال : إن خلق الجسم والحياة من جنس مقدور البشر ، ثم أسند خلق الحيوان والنبات إلى الأفلاك والكواكب كان مشركا فكذا ههنا ، فهذا مجموع ما يدل على أن اليهودي والنصراني يدخلان تحت اسم المشرك . واحتج من أباه بأن الله تعالى فصل بين أهل الكتاب وبين المشركين في الذكر ، وذلك يدل على أن أهل الكتاب لا يدخلون تحت اسم المشرك ، وإنما قلنا : إنه تعالى فصل لقوله تعالى : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا ) [الحج : 17] وقال أيضا : ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين ) [البقرة : 105] وقال : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ) [البينة : 1] ففي هذه الآيات فصل بين القسمين وعطف أحدهما على الآخر ، وذلك يوجب التغاير .

والجواب : أن هذا مشكل بقوله تعالى : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ) [الأحزاب : 7] وبقوله تعالى : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) [البقرة : 98] فإن قالوا : إنما خص بالذكر تنبيها على كمال الدرجة في ذلك الوصف المذكور ، قلنا : فههنا أيضا إنما خص عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الاسم تنبيها على كمال درجتهم في هذا الكفر ، فهذا جملة ما في هذه المسألة .

ثم اعلم أن القائلين بأن اليهود والنصارى يندرجون تحت اسم المشرك اختلفوا على قولين : فقال قوم : وقوع هذا الاسم عليهم من حيث اللغة لما بينا أن اليهود والنصارى قائلون بالشرك . وقال الجبائي والقاضي : هذا الاسم من جملة الأسماء الشرعية . واحتجا على ذلك بأنه قد تواتر النقل عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يسمي كل من كان كافرا بالمشرك ، ومن كان في الكفار من لا يثبت إلها أصلا أو كان شاكا في وجوده ، أو كان شاكا في وجود الشريك ، وقد كان فيهم من كان عند البعثة منكرا للبعث والقيامة ، فلا جرم كان منكرا للبعثة والتكليف ، وما كان يعبد شيئا من الأوثان ، والذين كانوا يعبدون الأوثان فيهم من كانوا يقولون : إنها شركاء الله في الخلق وتدبير العالم ، بل كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فثبت أن الأكثرين منهم كانوا مقرين بأن إله العالم واحد وأنه ليس له في الإلهية معين في خلق العالم وتدبيره وشريك ونظير ، إذا ثبت هذا ظهر أن وقوع اسم المشرك على الكافر ليس من الأسماء اللغوية ، بل من الأسماء الشرعية ، كالصلاة والزكاة وغيرهما ، وإذا كان كذلك وجب اندراج كل كافر تحت هذا الاسم ، فهذا جملة الكلام في هذه المسألة ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية