صفحة جزء
ثم قال تعالى : ( ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) ، وفيه وجوه :

الأول : أنهم قالوا : إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة وكانوا كاذبين في ذلك وعالمين بكونهم كاذبين فيه ، ومن كان كذلك كانت خيانته أعظم وجرمه أفحش .

الثاني : أنهم يعلمون كون الخيانة محرمة .

الثالث : أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم .

ثم قال تعالى : ( بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين ) .

اعلم أن في " بلى " وجهين :

أحدهما : أنه لمجرد نفي ما قبله ، وهو قوله : ( ليس علينا في الأميين سبيل ) ، فقال الله تعالى رادا عليهم " بلى " عليهم سبيل في ذلك ، وهذا اختيار الزجاج ، قال : وعندي وقف التمام على " بلى " وبعده استئناف .

والثاني : أن كلمة " بلى " كلمة تذكر ابتداء لكلام آخر يذكر بعده ، وذلك [ ص: 91 ] لأن قولهم : ليس علينا فيما نفعل جناح قائم مقام قولهم : نحن أحباء الله تعالى ، فذكر الله تعالى أن أهل الوفاء بالعهد والتقى هم الذين يحبهم الله تعالى لا غيرهم ، وعلى هذا الوجه فإنه لا يحسن الوقف على " بلى " ، وقوله : ( من أوفى بعهده ) مضى الكلام في معنى الوفاء بالعهد والضمير في " بعهده " يجوز أن يعود على اسم " الله " في قوله : ( ويقولون على الله الكذب ) ويجوز أن يعود على " من " لأن العهد مصدر فيضاف إلى المفعول وإلى الفاعل ، وهاهنا سؤالان :

السؤال الأول : بتقدير أن يكون الضمير عائدا إلى الفاعل وهو " من " فإنه يحتمل أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة ، فإنهم يكتسبون محبة الله تعالى .

الجواب : الأمر كذلك ، فإنهم إذا أوفوا بالعهود أوفوا أول كل شيء بالعهد الأعظم ، وهو ما أخذ الله عليهم في كتابهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة ، لاتقوه في ترك الكذب على الله ، وفي ترك تحريف التوراة .

السؤال الثاني : أين الضمير الراجع من الجزاء إلى " من " ؟

الجواب : عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير .

واعلم أن هذه الآية دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد ، وذلك لأن الطاعات محصورة في أمرين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله . فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معا ؛ لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق ، فهو شفقة على خلق الله ، ولما أمر الله به ، كان الوفاء به تعظيما لأمر الله ، فثبت أن العبارة مشتملة على جميع أنواع الطاعات والوفاء بالعهد ، كما يمكن في حق الغير يمكن أيضا في حق النفس ؛ لأن الوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات والتارك للمحرمات ، لأن عند ذلك تفوز النفس بالثواب وتبعد عن العقاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية