صفحة جزء
المسألة الثانية : في بيان أنه هل يجوز إطلاق لفظ الموجود على الله تعالى ؟ اعلم أن هذا البحث يجب أن يكون مسبوقا بمقدمة ، وهي أن لفظ الوجود يقال بالاشتراك عن معنيين :

أحدهما : أن يراد بالوجود الوجدان والإدراك والشعور ، ومتى أريد بالوجود الوجدان والإدراك فقد أريد بالموجود لا محالة المدرك والمشعور به .

والثاني : أن يراد بالوجود الحصول والتحقق في نفسه ، واعلم أن بين الأمرين فرقا ، وذلك لأن كونه معلوم الحصول في الأعيان يتوقف على كونه حاصلا في نفسه ، ولا ينعكس لأن كونه حاصلا في نفسه ، لا يتوقف على كونه معلوم الحصول في الأعيان ؛ لأنه يمتنع في العقل كونه حاصلا في نفسه ، مع أنه لا يكون معلوما لأحد ، بقي ههنا بحث ، وهو أن لفظ الوجود هل وضع أولا للإدراك والوجدان ثم نقل ثانيا إلى حصول الشيء في نفسه ، أو الأمر فيه بالعكس ، أو وضعا معا ؟ فنقول : هذا البحث لفظي والأقرب هو الأول ؛ لأنه لولا شعور الإنسان بذلك الشيء لما عرف حصوله في نفسه ، فلما كان الأمر كذلك وجب أن يكون وضع اللفظ لمعنى الشعور والإدراك سابقا على وضعه لحصول الشيء نفسه .

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إطلاق لفظ الموجود على الله تعالى يكون على وجهين :

أحدهما : كونه معلوما مشعورا به .

والثاني : كونه في نفسه ثابتا متحققا أما بحسب المعنى الأول فقد جاء في القرآن قال الله تعالى : ( لوجدوا الله ) [ النساء : 64 ] ولفظ الوجود ههنا بمعنى الوجدان والعرفان ، وأما بالمعنى الثاني فهو غير موجود في القرآن .

فإن قالوا : لما حصل الوجود بمعنى الوجدان لزم حصول الوجود بمعنى الثبوت والتحقق إذ لو كان عدما محضا لما كان الأمر كذلك .

فنقول : هذا ضعيف من وجهين :

الأول : أنه لا يلزم من حصول الوجود بمعنى الوجدان والمعرفة حصول الوجود بمعنى الثبوت ، لما ثبت أن المعدوم قد يكون معلوما .

والثاني : أنا بينا أن هذا البحث ليس إلا في اللفظ ، فلا يلزم من حصول الاسم بحسب معنى حصول الاسم بحسب معنى آخر ، ثم نقول : ثبت بإجماع المسلمين إطلاق هذا الاسم فوجب القول به .

فإن قالوا : ألستم قلتم إن أسماء الله تعالى يجب كونها دالة على المدح والثناء ، ولفظ الموجود لا يفيد ذلك ؟

قلنا عدلنا عن هذا الدليل بدلالة الإجماع ، وأيضا فدلالة لفظ الموجود على المدح أكثر من دلالة لفظ الشيء عليه ، وبيانه من وجوه :

الأول : أنه عند قوم يقع لفظ الشيء على المعدوم كما يقع على الموجود ، أما الموجود فإنه لا يقع على المعدوم البتة ، فكان إشعار هذا اللفظ بالمدح أولى .

الثاني : أن لفظ الموجود [ ص: 104 ] بمعنى المعلوم يفيد صفة المدح والثناء ؛ لأنه يفيد أن بسبب كثرة الدلائل على وجوده وإلاهيته صار كأنه معلوم لكل أحد ، موجود عند كل أحد ، واجب الإقرار به عند كل عقل ، فهذا اللفظ أفاد المدح والثناء من هذا الوجه ، فظهر الفرق بينه وبين لفظ الشيء .

التالي السابق


الخدمات العلمية