صفحة جزء
( ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم )

قوله تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم )

وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد فإنه تعالى لما استدل بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدمة أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب .

المسألة الثانية : ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أول لها ، وإذا ثبت هذا ظهر وجوب انتهاء الحوادث إلى حادث أول هو أول الحوادث ، وإذا كان كذلك فلا بد من انتهاء الناس إلى إنسان هو أول الناس ، وإذا كان كذلك فذلك الإنسان الأول غير مخلوق من الأبوين ، فيكون مخلوقا لا محالة بقدرة الله تعالى .

فقوله : ( ولقد خلقنا الإنسان ) إشارة إلى ذلك الإنسان الأول ، والمفسرون أجمعوا على أن المراد منه هو آدم عليه السلام ، ونقل في كتب الشيعة عن محمد بن علي الباقر عليه السلام أنه قال : قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر وأقول : هذا لا يقدح في حدوث العالم بل لأمر كيف كان ، فلا بد من الانتهاء إلى إنسان أول هو أول الناس ، وأما أن ذلك الإنسان هو أبونا آدم ، فلا طريق إلى إثباته إلا من جهة السمع .

واعلم أن الجسم محدث ، فوجب القطع بأن آدم عليه السلام وغيره من الأجسام يكون مخلوقا عن عدم محض ، وأيضا دل قوله تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ) [آل عمران : 59] على أن آدم مخلوق من تراب ، ودلت آية أخرى على أنه مخلوق من الطين ، وهي قوله : ( إني خالق بشرا من طين ) [ص : 71] وجاء في هذه الآية أن آدم عليه السلام مخلوق من صلصال من حمأ مسنون ، والأقرب أنه تعالى خلقه أولا من تراب ، ثم من طين ثم من حمأ مسنون ثم من صلصال كالفخار ، ولا شك أنه تعالى قادر على خلقه من أي جنس من الأجسام كان ، بل هو قادر على خلقه ابتداء ، وإنما خلقه على هذا الوجه إما لمحض المشيئة أو لما فيه من دلالة الملائكة ومصلحتهم ومصلحة الجن ; لأن خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشيء من شكله وجنسه .

[ ص: 143 ] المسألة الثالثة : في الصلصال قولان : قيل : الصلصال الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ ، وإذا طبخ فهو فخار . قالوا : إذا توهمت في صوته مدا فهو صليل ، وإذا توهمت فيه ترجيعا فهو صلصلة . قال المفسرون : خلق الله تعالى آدم عليه السلام من طين فصوره وتركه في الشمس أربعين سنة ، فصار صلصالا كالخزف ولا يدري أحد ما يراد به ، ولم يروا شيئا من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح .

وحقيقة الكلام أنه تعالى خلق آدم من طين على صورة الإنسان فجف ، فكانت الريح إذا مرت به سمع له صلصلة ، فلذلك سماه الله تعالى صلصالا .

والقول الثاني : الصلصال هو المنتن من قولهم صل اللحم وأصل إذا نتن وتغير ، وهذا القول عندي ضعيف ; لأنه تعالى قال : ( من صلصال من حمإ مسنون ) وكونه حمأ مسنونا يدل على النتن والتغير ، وظاهر الآية يدل على أن هذا الصلصال إنما تولد من الحمأ المسنون ، فوجب أن يكون كونه صلصالا مغايرا لكونه حمأ مسنونا ، ولو كان كونه صلصالا عبارة عن النتن والتغير لم يبق بين كونه صلصالا ، وبين كونه حمأ مسنونا تفاوت ، وأما الحمأ فقال الليث : الحمأة بوزن فعلة ، والجمع الحمأ وهو الطين الأسود المنتن . وقال أبو عبيدة والأكثرون : حمأة بوزن كمأة وقوله : ( مسنون ) فيه أقوال :

الأول : قال ابن السكيت : سمعت أبا عمر يقول في قوله : ( مسنون ) أي : متغير ، قال أبو الهيثم : يقال سن الماء ، فهو مسنون أي : تغير . والدليل عليه قوله تعالى : ( لم يتسنه ) [البقرة : 259] أي : لم يتغير .

الثاني : المسنون المحكوك ، وهو مأخوذ من سننت الحجر إذا حككته عليه ، والذي يخرج من بينهما يقال له السنن ، وسمي المسن مسنا ; لأن الحديد يسن عليه .

والثالث : قال الزجاج : هذا اللفظ مأخوذ من أي موضوع على سنن الطريق ; لأنه متى كان كذلك فقد تغير .

الرابع : قال أبو عبيدة : المسنون المصبوب ، والسن الصب يقال : سن الماء على وجهه سنا .

الخامس : قال سيبويه : المسنون المصور على صورة ومثال ، من سنة الوجه وهي صورته .

السادس : روي عن ابن عباس أنه قال : المسنون الطين الرطب ، وهذا يعود إلى قول أبي عبيدة ; لأنه إذا كان رطبا يسيل وينبسط على الأرض ، فيكون مسنونا بمعنى أنه مصبوب .

أما قوله تعالى : ( والجان خلقناه ) فاختلفوا في أن الجان من هو ؟ فقال عطاء عن ابن عباس : يريد إبليس ، وهو قول الحسن ومقاتل وقتادة . وقال ابن عباس في رواية أخرى : الجان هو أب الجن وهو قول الأكثرين . وسمي جانا لتواريه عن الأعين ، كما سمي الجنين جنينا لهذا السبب ، والجنين متوار في بطن أمه ، ومعنى الجان في اللغة الساتر من قولك : جن الشيء إذا ستره ، فالجان المذكور ههنا يحتمل أنه سمي جانا ; لأنه يستر نفسه عن أعين بني آدم ، أو يكون من باب الفاعل الذي يراد به المفعول ، كما يقال في لابن وتامر وماء دافق وعيشة راضية . واختلفوا في الجن فقال بعضهم : إنهم جنس غير الشياطين ، والأصح أن الشياطين قسم من الجن ، فكل من كان منهم مؤمنا فإنه لا يسمى بالشيطان ، وكل من كان منهم كافرا يسمى بهذا الاسم ، والدليل على صحة ذلك : أن لفظ الجن مشتق من الاستتار ، فكل من كان كذلك كان من الجن ، وقوله تعالى : ( خلقناه من قبل ) قال ابن عباس : يريد من قبل خلق آدم ، وقوله : ( من نار السموم ) معنى السموم في اللغة : الريح الحارة تكون بالنهار وقد تكون بالليل ، وعلى هذا فالريح الحارة فيها نار ولها لفح وأوار ، على ما ورد في الخبر أنها لفح جهنم . قيل : سميت سموما ; لأنها بلطفها تدخل في مسام البدن ، وهي الخروق الخفية التي تكون في جلد الإنسان يبرز منها عرقه وبخار باطنه . قال ابن مسعود : هذه السموم جزء [ ص: 144 ] من سبعين جزءا من السموم التي خلق الله بها الجان وتلا هذه الآية .

فإن قيل : كيف يعقل خلق الجان من النار ؟

قلنا : هذا على مذهبنا ظاهر ; لأن البنية عندنا ليست شرطا لإمكان حصول الحياة ، فالله تعالى قادر على خلق الحياة والعلم في الجوهر الفرد ، فكذلك يكون قادرا على خلق الحياة والعقل في الجسم الحار ، واستدل بعضهم على أن الكواكب يمتنع حصول الحياة فيها قال : لأن الشمس في غاية الحرارة وما كان كذلك امتنع حصول الحياة فيه فننقضه عليه بقوله تعالى : ( والجان خلقناه من قبل من نار السموم ) بل المعتمد في نفي الحياة عن الكواكب الإجماع .

التالي السابق


الخدمات العلمية