صفحة جزء
( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا )

قوله تعالى : ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ) [ ص: 59 ]

قال صاحب "الكشاف" : المراد بهما الاسم لا المسمى والواو للتخيير بمعنى : ( ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ) أي : سموا بهذا الاسم أو بهذا أو اذكروا إما هذا وإما هذا ، والتنوين في " أيا " عوض عن المضاف إليه و " ما " صلة للإبهام المؤكد لما في أي ، والتقدير أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم ( فله الأسماء الحسنى ) والضمير في قوله : ( فله ) ليس براجع إلى أحد الاسمين المذكورين ولكن إلى مسماهما وهو ذاته عز وعلا ، والمعنى : ( أيا ما تدعوا ) فهو حسن فوضع موضعه قوله : ( فله الأسماء الحسنى ) لأنه إذا حسنت أسماؤه فقد حسن هذان الاسمان لأنهما منها ، ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التحميد والتقديس ، وقد سبق الاستقصاء في هذا الباب في آخر سورة الأعراف في تفسير قوله : ( ولله الأسماء الحسنى ) [ الأعراف : 180 ] فادعوه بها ، واحتج الجبائي بهذه الآية فقال : لو كان تعالى هو الخالق للظلم والجور لصح أن يقال يا ظالم وحينئذ يبطل ما ثبت في هذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة ، والجواب : أنا لا نسلم أنه لو كان خالقا لأفعال العباد لصح وصفه بأنه ظالم وجائر كما أنه لا يلزم من كونه خالقا للحركة والسكون والسواد والبياض أن يقال يا متحرك ويا ساكن ويا أسود ويا أبيض فإن قالوا : فيلزم جواز أن يقال يا خالق الظلم والجور ، قلنا : فيلزمكم أن تقولوا يا خالق العذرات والديدان والخنافس ، وكما أنكم تقولون أن ذلك حق في نفس الأمر ولكن الأدب أن يقال يا خالق السماوات والأرض فكذا قولنا هنا ، ثم قال تعالى : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) وفيه مباحث :

البحث الأول : قوله : ( ولا تجهر بصلاتك ) فيه أقوال :

الأول : روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله تعالى إليه : ( ولا تجهر بصلاتك ) فيسمع المشركون فيسبوا الله عدوا بغير علم : ( ولا تخافت بها ) فلا تسمع أصحابك ، وابتغ بين ذلك سبيلا .

القول الثاني : روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف بالليل على دور الصحابة ، وكان أبو بكر يخفي صوته بالقراءة في صلاته وكان عمر يرفع صوته ، فلما جاء النهار وجاء أبو بكر وعمر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر لم تخفي صوتك ؟ فقال : أناجي ربي ، وقد علم حاجتي ، وقال لعمر لم ترفع صوتك ؟ فقال : أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يرفع صوته قليلا ، وعمر أن يخفض صوته قليلا .

القول الثالث : معناه : ( ولا تجهر بصلاتك ) كلها ( ولا تخافت بها ) كلها ، وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار .

والقول الرابع : أن المراد بالصلاة : الدعاء ، وهذا قول عائشة - رضي الله عنها - وأبي هريرة ومجاهد ، قالت عائشة - رضي الله عنها - هي في الدعاء ، وروي هذا مرفوعا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في هذه الآية إنما ذلك في الدعاء والمسألة لا ترفع صوتك فتذكر ذنوبك فيسمع ذلك فتعير بها ، فالجهر بالدعاء منهي عنه ، والمبالغة في الإسرار غير جائزة ، والمستحب من ذلك التوسط وهو أن يسمع نفسه كما روي عن ابن مسعود أنه قال : لم يخافت من أسمع أذنيه .

والقول الخامس : قال الحسن : لا تراء بعلانيتها ولا تسئ بسريتها .

البحث الثاني : الصلاة عبارة عن مجموع الأفعال والأذكار والجهر والمخافتة من عوارض الصوت ، [ ص: 60 ] فالمراد ههنا من الصلوات بعض أجزاء ماهية الصلاة وهو الأذكار والقرآن وهو من باب إطلاق اسم الكل لإرادة الجزء .

البحث الثالث : يقال خفت صوته يخفت خفتا وخفوتا إذا ضعف وسكن ، وصوت خفيت أي خفيض ، ومنه يقال للرجل إذا مات قد خفت أي انقطع كلامه ، وخفت الزرع إذا ذبل ، وخفت الرجل يخافت بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت ، وقد تخافت القوم إذا تساروا بينهم ، وأقول : ثبت في كتب الأخلاق أن كلا طرفي الأمور ذميم والعدل هو رعاية الوسط ولهذا المعنى مدح الله هذه الأمة بقوله : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) ( البقرة : 143 ) وقال في مدح المؤمنين : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) ( الفرقان : 67 ) وأمر الله رسوله فقال : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) ( الإسراء : 29 ) فكذا ههنا نهى عن الطرفين وهو الجهر والمخافتة وأمر بالتوسط بينهما فقال : ( وابتغ بين ذلك سبيلا ) ومنهم من قال : الآية منسوخة بقوله : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) ( الأعراف : 55 ) وهو بعيد ، واعلم أنه تعالى لما أمر أن لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحسنى علمه كيفية التحميد فقال : ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل ) فذكر ههنا من صفات التنزيه والجلال وهي السلوب ثلاثة أنواع من الصفات :

النوع الأول من الصفات : أنه لم يتخذ ولدا ، والسبب فيه وجوه :

الأول : أن الولد هو الشيء المتولد من جزء من أجزاء شيء آخر فكل من له ولد فهو مركب من الأجزاء ، والمركب محدث ، والمحدث محتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد .

الثاني : أن كل من له ولد فإنه يمسك جميع النعم لولده فإذا لم يكن له ولد أفاض كل تلك النعم على عبيده .

الثالث : أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه وفنائه فلو كان له ولد لكان منقضيا ومن كان كذلك لم يقدر على كمال الإنعام في كل الأوقات فوجب أن لا يستحق الحمد على الإطلاق .

والنوع الثاني من الصفات السلبية قوله : ( ولم يكن له شريك في الملك ) والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك فحينئذ لا يعرف كونه مستحقا للحمد والشكر .

والنوع الثالث : قوله : ( ولم يكن له ولي من الذل ) والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو جاز عليه ولي من الذل لم يجب شكره لتجويز أن غيره حمله على ذلك الإنعام أو منعه منه ، أما إذا كان منزها عن الولد وعن الشريك وكان منزها عن أن يكون له ولي يلي أمره كان مستوجبا لأعظم أنواع الحمد ومستحقا لأجل أقسام الشكر ، ثم قال تعالى : ( وكبره تكبيرا ) ومعناه أن التحميد يجب أن يكون مقرونا بالتكبير ، ويحتمل أنواعا من المعاني :

أولها : تكبيره في ذاته وهو أن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته وأنه غني عن كل ما سواه .

وثانيها : تكبيره في صفاته وذلك من ثلاثة أوجه :

أولها : أن يعتقد أن كل ما كان صفة له فهو من صفات الجلال والعز والعظمة والكمال وهو منزه عن كل صفات النقائص .

وثالثها : أن يعتقد أن كل واحد من تلك الصفات متعلق بما لا نهاية له من المعلومات ، وقدرته متعلقة بما لا نهاية له من المقدورات والممكنات .

ورابعها : أن يعتقد أنه كما تقدست ذاته عن الحدوث وتنزهت عن التغير والزوال والتحول والانتقال فكذلك صفاته أزلية قديمة سرمدية منزهة عن التغير والزوال والتحول والانتقال .

النوع الثالث : من تكبير الله تكبيره في أفعاله وعند هذا تختلف أهل الجبر والقدر ، فقال أهل السنة : إنا نحمد الله ونكبره ونعظمه عن أن يجري في سلطانه شيء لا على وفق حكمه وإرادته فالكل واقع بقضاء الله وقدرته ومشيئته وإرادته ، وقالت المعتزلة : إنا نكبر الله ونعظمه عن أن يكون فاعلا لهذه القبائح والفواحش بل نعتقد أن حكمته تقتضي التنزيه والتقديس عنها وعن إرادتها وسمعت [ ص: 61 ] أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني كان جالسا في دار الصاحب بن عباد فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني فلما رآه قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، فقال الأستاذ أبو إسحاق : سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء .

النوع الرابع : تكبير الله في أحكامه وهو أن يعتقد أنه ملك مطاع وله الأمر والنهي والرفع والخفض وأنه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أحكامه يعز من يشاء ويذل من يشاء .

النوع الخامس : تكبير الله في أسمائه وهو أن لا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة العالية المنزهة .

النوع السادس : من التكبير هو أن الإنسان بعد أن يبلغ في التكبير والتعظيم والتنزيه والتقديس مقدار عقله وفهمه وخاطره يعترف أن عقله وفهمه لا يفي بمعرفة جلال الله ، ولسانه لا يفي بشكره ، وجوارحه وأعضاؤه لا تفي بخدمته فكبر الله عن أن يكون تكبيره وافيا بكنه مجده وعزته ، وهذا أقصى ما يقدر عليه العبد الضعيف من التكبير والتعظيم ونسأل الله تعالى الرحمة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت إنه الكريم الرحيم وبالله العصمة والتوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل . قال المصنف رحمه الله - : " تم تفسير هذه السورة يوم الثلاثاء بين الظهر والعصر يوم العشرين من شهر المحرم في بلدة غزنين سنة إحدى وستمائة ، والحمد لله والصلاة على نبيه محمد وآله وصحبه وسلم تسليما " .

التالي السابق


الخدمات العلمية