1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة البقرة
  4. قوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات
صفحة جزء
المسألة الخامسة : اعلم أن القرآن ههنا قد دل على وجود سبع سماوات ، وقال أصحاب الهيئة أقربها إلينا كرة القمر ، وفوقها كرة عطارد ، ثم كرة الزهرة ، ثم كرة الشمس ، ثم كرة المريخ ، ثم كرة المشتري ، ثم كرة زحل ، قالوا : ولا طريق إلى معرفة هذا الترتيب إلا من وجهين :

الأول : الستر ، وذلك أن الكوكب الأسفل إذا مر بين أبصارنا وبين الكوكب الأعلى فإنهما يصيران ككوكب واحد ، ويتميز الساتر عن المستور بكونه الغالب كحمرة المريخ وصفرة عطارد ، وبياض الزهرة ، وزرقة المشتري ، وكدورة زحل ، كما أن القدماء وجدوا القمر يكسف الكواكب الستة . وكوكب عطارد يكسف الزهرة ، والزهرة تكسف المريخ ، وهذا الترتيب على هذا الطريق يدل على كون الشمس فوق القمر لانكسافها به ولكن لا يدل على كونها تحت سائر الكواكب أو فوقها لأنها لا تنكسف بشيء منها لاضمحلال سائر الكواكب عند طلوعها ، فعند هذا ذكروا طريقين :

أحدهما : ذكر بعضهم أنه رأى الزهرة كشامة في صحيفة الشمس ، وهذا ضعيف ؛ لأن منهم من زعم أن في وجه الشمس شامة كما أنه حصل في وجه القمر المحو .

الثاني : اختلاف المنظر ، فإنه محسوس للقمر وعطارد والزهرة وغير محسوس للمريخ والمشتري وزحل ، وأما في حق الشمس فإنه قليل جدا ، فوجب أن تكون الشمس متوسطة بين القسمين . هذا ما قاله الأكثرون ، إلا أن أبا الريحان قال في تلخيصه لفصول الفرغاني : إن اختلاف المنظر لا يحس إلا في القمر ، فبطلت هذه الوجوه وبقي موضع الشمس مشكوكا . واعلم أن أصحاب الأرصاد وأرباب الهيئة زعموا أن الأفلاك تسعة ، فالسبعة هي هذه التي ذكرناها ، والفلك الثامن هو الذي حصلت هذه الكواكب الثابتة فيه ، وأما الفلك التاسع فهو الفلك الأعظم وهو يتحرك في كل يوم وليلة دورة واحدة بالتقريب ، واحتجوا على إثبات الفلك الثامن بأنا وجدنا لهذه الكواكب الثابتة حركات بطيئة وثبت أن الكواكب لا تتحرك إلا بحركة فلكها والأفلاك الحاملة لهذه السيارات تتحرك حركات سريعة فلا بد من جسم آخر يتحرك حركة بطيئة ويكون هو الحامل لهذه الثوابت ، وهذه الدلالة ضعيفة من وجوه :

أولها : لم لا يجوز أن يقال : الكواكب تتحرك بأنفسها من غير أن تكون مركوزة في جسم آخر ؟ وهذا الاحتمال لا يفسد إلا بإفساد المختار ، ودونه خرط القتاد .

وثانيها : سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال : إن هذه الكواكب مركوزة في ممثلات السيارات والسيارات مركوزة في حواملها ، وعند ذلك لا يحتاج إلى إثبات الفلك الثامن .

وثالثها : لم لا يجوز أن يكون ذلك الفلك تحت فلك القمر فيكون تحت كرات السيارات لا فوقها ، فإن قيل : إنا نرى هذه السيارات تكسف هذه الثوابت والكاسف تحت المكسوف لا محالة . قلنا : هذه السيارات إنما تكسف الثوابت القريبة من المنطقة فأما الثوابت القريبة من القطبين فلا ، فلم لا يجوز أن يقال : هذه الثوابت القريبة من المنطقة مركوزة في الفلك الثامن الذي هو فوق كرة زحل ، وهذه الثوابت القريبة من القطبين التي لا يمكن انكسافها بالسيارات مركوزة في كرة أخرى تحت كرة القمر ؟ وهذا الاحتمال لا دافع له ، ثم نقول : هب أنكم أثبتم هذه الأفلاك التسعة فما الذي دلكم على نفي الفلك العاشر ، أقصى ما في الباب أن الرصد ما دل [ ص: 145 ] إلا على هذا القدر إلا أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول ، والذي يحقق ذلك أنه قال بعض المحققين منهم : إنه ما تبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطو بعضها على بعض ، وأقول : هذا الاحتمال واقع ؛ لأن الذي يستدل به على وحدة كرة الثوابت ليس إلا أن يقال : إن حركاتها متشابهة ومتى كان الأمر كذلك كانت مركوزة في كرة واحدة ، وكلتا المقدمتين غير يقينيتين .

أما الأولى : فلأن حركاتها وإن كانت في الحس واحدة ولكن لعلها لا تكون في الحقيقة واحدة ؛ لأنا لو قدرنا أن واحدا منها يتمم الدورة في ستة وثلاثين ألف سنة . والآخر يتمم الدورة في مثل هذه المدة بنقصان سنة واحدة ، فإذا وزعنا ذلك النقصان على هذه السنين كان الذي هو حصة السنة الواحدة ثلاثة عشر جزءا من ألف ومائتي جزء من واحد ، وهذا القدر مما لا يحس به بل العشر سنين والمائة والألف مما لا يحس به البتة .

وإذا كان ذلك محتملا سقط القطع البتة عن استواء حركات الثوابت .

وأما الثانية : فلأن استواء حركات الثوابت في مقادير حركاتها لا يوجب كونها بأسرها مركوزة في كرة واحدة لاحتمال كونها مركوزة في كرات متباينة ، وإن كانت مشتركة في مقادير حركاتها ، وهذا كما يقولون في ممثلات أكثر الكواكب ، فإنها في حركاتها مساوية لفلك الثوابت ، فكذا ههنا .

وأقول : إن هذا الاحتمال الذي ذكره هذا القائل غير مختص بفلك الثوابت ، فلعل الجرم المتحرك بالحركة اليومية ليس جرما واحدا بل أجراما كثيرة ، إما مختلفة الحركات لكن بتفاوت قليل لا تفي بإدراكها أعمارنا وأرصادنا ، وإما متساوية على الإطلاق ولكن تساويها لا يوجب وحدتها . ومن أصحاب الهيئة من قطع بإثبات أفلاك أخر غير هذه التسعة فإن من الناس من أثبت كرة فوق كرة الثوابت وتحت الفلك الأعظم ، واستدل عليه من وجوه :

الأول : أن الراصدين للميل الأعظم وجدوه مختلف المقدار فكل من كان رصده أقدم وجد مقدار الميل أعظم ، فإن بطليموس وجده " لح يا " ثم وجد في زمان المأمون " كح له " ثم وجد بعد المأمون قد تناقص بدقيقة ، وذلك يقتضي أن من شأن المنطقتين أن يقل ميلهما تارة ويكثر أخرى ، وهذا إنما يمكن إذا كان بين كرة الكل وكرة الثوابت كرة أخرى يدور قطباها حول قطبي كرة الكل وتكون كرة الثوابت يدور قطباها حول قطبي تلك الكرة ، فيعرض لقطبها تارة أن يصير إلى جانب الشمال منخفضا وتارة إلى جانب الجنوب مرتفعا ، فيلزم من ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة البروج ، وأن ينفصل عنه تارة أخرى إلى الجنوب عندما يرتفع قطب فلك الثوابت إلى الجنوب ، وتارة إلى الشمال . كما هو الآن .

الثاني : أن أصحاب الأرصاد اضطربوا اضطرابا شديدا في مقدار سير الشمس على ما هو مشروح في " كتب النجوم " حتى إن بطليموس حكى عن أبرخيس أنه كان شاكا في أن هذه العودة تكون في أزمنة متساوية أو مختلفة ، وأنه يقول في بعض أقاويله : إنها مختلفة ، وفي بعضها : إنها متساوية ، ثم إن الناس ذكروا في سبب اختلافه قولين :

أحدهما : قول من يجعل أوج الشمس متحركا ، فإنه زعم أن الاختلاف الذي يلحق حركة الشمس من هذه الجهة يختلف عند نقطة الاعتدال لاختلاف بعدها عن الأوج ، فيختلف زمان سير الشمس من أجله .

الثاني : قول أهل الهند والصين وبابل وأكثر قدماء الروم ومصر والشام : إن السبب فيه انتقال فلك [ ص: 146 ] البروج وارتفاع قطبه وانحطاطه ، وحكي عن أبرخيس أنه كان يعتقد هذا الرأي وذكر بارياء الإسكندراني أن أصحاب الطلسمات كانوا يعتقدون ذلك وأن نقطة فلك البروج تتقدم عن موضعها وتتأخر ثمان درجات ، وقالوا : إن ابتداء الحركة من " كب " درجة من الحوت إلى أول الحمل ، واعلم أن هذا الخبط مما ينبهك على أنه لا سبيل للعقول البشرية إلى إدراك هذه الأشياء وأنه لا يحيط بها إلا علم فاطرها وخالقها ، فوجب الاقتصار فيه على الدلائل السمعية .

فإن قال قائل : فهل يدل التنصيص على سبع سماوات على نفي العدد الزائد ؟ قلنا : الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد .

المسألة السادسة : قوله تعالى : ( وهو بكل شيء عليم ) يدل على أنه سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون خالقا للأرض وما فيها وللسماوات وما فيها من العجائب والغرائب ، إلا إذا كان عالما بها محيطا بجزئياتها وكلياتها ، وذلك يدل على أمور :

أحدها : فساد قول الفلاسفة الذين قالوا : إنه لا يعلم الجزئيات ، وصحة قول المتكلمين ، وذلك لأن المتكلمين استدلوا على علم الله تعالى بالجزئيات بأن قالوا : إن الله تعالى فاعل لهذه الأجسام على سبيل الإحكام والإتقان وكل فاعل على هذا الوجه فإنه لا بد وأن يكون عالما بما فعله ، وهذه الدلالة بعينها ذكرها الله تعالى في هذا الموضع ؛ لأنه ذكر خلق السماوات والأرض ثم فرع على ذلك كونه عالما ، فثبت بهذا أن قول المتكلمين في هذا المذهب وفي هذا الاستدلال مطابق للقرآن .

وثانيها : فساد قول المعتزلة ، وذلك لأنه سبحانه وتعالى بين أن الخالق للشيء على سبيل التقدير والتحديد لا بد وأن يكون عالما به وبتفاصيله لأن خالقه قد خصه بقدر دون قدر ، والتخصيص بقدر معين لا بد وأن يكون بإرادة وإلا فقد حصل الرجحان من غير مرجح والإرادة مشروطة بالعلم ، فثبت أن خالق الشيء لا بد وأن يكون عالما به على سبيل التفصيل .

فلو كان العبد موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بها وبتفاصيلها في العدد والكمية والكيفية ، فلما لم يحصل هذا العلم علمنا أنه غير موجد نفسه .

وثالثها : قالت المعتزلة : إذا جمعت بين هذه الآية وبين قوله : ( وفوق كل ذي علم عليم ) [ يوسف : 76 ] ظهر أنه تعالى عالم بذاته ، والجواب : قوله تعالى : ( وفوق كل ذي علم عليم ) عام ، وقوله : ( أنزله بعلمه ) [ النساء : 166 ] خاص ، والخاص مقدم على العام . والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية