صفحة جزء
( هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد )

قوله تعالى : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد )

القراءة : روي عن الكسائي " خصمان " بكسر الخاء ، وقرئ " قطعت " بالتخفيف كأن الله يقدر لهم نيرانا على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة ، قرأ الأعمش : " كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم ردوا فيها " الحسن : " يصهر " بتشديد الهاء للمبالغة ، وقرئ " ولؤلؤا " بالنصب على تقدير ويؤتون لؤلؤا كقوله : وحورا عينا ، ولؤلوا بقلب الهمزة الثانية واوا . واعلم أنه سبحانه لما بين أن الناس قسمان منهم من يسجد لله ومنهم من حق عليه العذاب ذكر هاهنا كيفية اختصامهم ، وفيه مسائل : [ ص: 20 ] المسألة الأولى : احتج من قال : أقل الجمع اثنان بقوله : ( هذان خصمان اختصموا ) ، والجواب : الخصم صفة وصف بها الفوج أو الفريق فكأنه قيل : هذان فوجان أو فريقان يختصمان ، فقوله : ( هذان ) للفظ واختصموا للمعنى كقوله : ( ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا ) [ محمد : 16 ] .

المسألة الثانية : ذكروا في تفسير الخصمين وجوها :

أحدها : المراد طائفة المؤمنين وجماعتهم وطائفة الكفار وجماعتهم ، وأن كل الكفار يدخلون في ذلك ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يرجع إلى أهل الأديان الستة ( في ربهم ) أي في ذاته وصفاته .

وثانيها : روي أن أهل الكتاب قالوا : نحن أحق بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسدا ، فهذه خصومتهم في ربهم .

وثالثها : روى قيس بن عبادة عن أبي ذر الغفاري - رحمه الله - أنه كان يحلف بالله أن هذه الآية نزلت في ستة نفر من قريش تبارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة ، وقال علي عليه السلام : أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة . ورابعها : قال عكرمة : هما الجنة والنار ، قالت النار : خلقني الله لعقوبته . وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته ، فقص الله من خبرهما على محمد صلى الله عليه وسلم ذلك ، والأقرب هو الأول لأن السبب وإن كان خاصا فالواجب حمل الكلام على ظاهره ، وقوله : ( هذان ) كالإشارة إلى من تقدم ذكره وهم أهل الأديان الستة ، وأيضا ذكر صنفين : أهل طاعته وأهل معصيته ممن حق عليه العذاب ، فوجب أن يكون رجوع ذلك إليهما ، فمن خص به مشركي العرب أو اليهود من حيث قالوا في كتابهم ونبيهم ما حكيناه فقد أخطأ ، وهذا هو الذي يدل عليه قوله : ( إن الله يفصل بينهم ) [ الحج : 17 ] أراد به الحكم ؛ لأن ذكر التخاصم يقتضي الواقع بعده يكون حكما فبين الله تعالى حكمه في الكفار ، وذكر من أحوالهم أمورا ثلاثة :

أحدها : قوله : ( قطعت لهم ثياب من نار ) والمراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله : ( لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ) [ الأعراف : 41 ] عن أنس ، وقال سعيد بن جبير من نحاس أذيب بالنار أخذا من قوله تعالى : ( سرابيلهم من قطران ) [ إبراهيم : 50 ] وأخرج الكلام بلفظ الماضي كقوله تعالى : ( ونفخ في الصور ) [ يس : 51 ] ، ( وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ) [ ق : 21 ] لأن ما كان من أمر الآخرة فهو كالواقع . وثانيها : قوله : ( يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ) الحميم الماء الحار ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو سقطت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها ، يصهر أي يذاب أي إذا صب الحميم على رءوسهم كان تأثيره في الباطن نحو تأثيره في الظاهر ، فيذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله : ( وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) [ محمد : 15 ] . وثالثها : قوله : ( ولهم مقامع من حديد ) المقامع السياط ، وفي الحديث : لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها وأما قوله : ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها ) فاعلم أن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ، والمعنى كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها ، ومعنى الخروج ما يروى عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفا ، وقيل لهم : ذوقوا عذاب الحريق ، والحريق الغليظ من النار العظيم الإهلاك ، ثم إنه سبحانه ذكر حكمه في المؤمنين من أربعة أوجه :

[ ص: 21 ] أحدها : المسكن ، وهو قوله : ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ) ، وثانيها : الحلية ، وهو قوله : ( يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ) فبين تعالى أنه موصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم في الدنيا من هذه الأمور ، وإن كان من أحله لهم أيضا شاركهم فيه لأن المحلل للنساء في الدنيا يسير بالإضافة إلى ما سيحصل لهم في الآخرة . وثالثها : الملبوس وهو قوله : ( ولباسهم فيها حرير ) ، ورابعها : قوله : ( وهدوا إلى الطيب من القول ) وفيه وجوه :

أحدها : شهادة أن لا إله إلا الله هو الطيب من القول لقوله : ( مثلا كلمة طيبة ) [ إبراهيم : 24 ] وقوله : ( إليه يصعد الكلم الطيب ) [ فاطر : 10 ] وهو صراط الحميد لقوله : ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) [ الشورى : 52 ] .

وثانيها : قال السدي : وهدوا إلى الطيب من القول هو القرآن .

وثالثها : قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء هو قولهم : الحمد لله الذي صدقنا وعده .

ورابعها : أنهم إذا ساروا إلى الدار الآخرة هدوا إلى البشارات التي تأتيهم من قبل الله تعالى بدوام النعيم والسرور والسلام ، وهو معنى قوله : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) [ الرعد : 23 ] ، وعندي فيه وجه خامس : وهو أن العلاقة البدنية جارية مجرى الحجاب للأرواح البشرية في الاتصال بعالم القدس ، فإذا فارقت أبدانها انكشف الغطاء ولاحت الأنوار الإلهية ، وظهور تلك الأنوار هو المراد من قوله : ( وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد ) والتعبير عنها هو المراد من قوله : ( وهدوا إلى الطيب من القول ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية