صفحة جزء
أما قوله : ( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ) ففيه مسائل :

المسألة الأولى : أنه تعالى لما أمر بالحج في قوله : ( وأذن في الناس بالحج ) ذكر حكمة ذلك الأمر في قوله : ( ليشهدوا منافع لهم ) واختلفوا فيها فبعضهم حملها على منافع الدنيا . وهي أن يتجروا في أيام الحج ، وبعضهم حملها على منافع الآخرة ، وهي العفو والمغفرة عن محمد الباقر عليه السلام ، وبعضهم حملها على الأمرين جميعا ، وهو الأولى .

المسألة الثانية : إنما نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات .

المسألة الثالثة : كنى عن الذبح والنحر بذكر اسم الله تعالى ؛ لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا وذبحوا وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله تعالى أن يذكر اسم الله تعالى ، وأن يخالف المشركين في ذلك فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان ، قال مقاتل : إذا ذبحت فقل : بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك ، وتستقبل القبلة ، وزاد الكلبي فقال : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، قال القفال : وكان المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها ، فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته طلبا لمرضاة الله تعالى ، واعترافا بأن تقصيره يستحق مهجته .

المسألة الرابعة : أكثر العلماء صاروا إلى أن الأيام المعلومات عشر ذي الحجة والمعدودات أيام التشريق ، وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والحسن ، ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس واختيار الشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله ، واحتجوا بأنها معلومة عند الناس لحرصهم على علمها من أجل أن وقت الحج في آخرها . ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة والمشعر الحرام ، وكذلك الذبائح لها وقت منها وهو يوم النحر ، وقال ابن عباس في رواية عطاء : إنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده وهو اختيار أبي مسلم ، قال : لأنها كانت معروفة عند العرب بعدها وهي أيام النحر وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله .

[ ص: 27 ] أما قوله : ( بهيمة الأنعام ) فقال صاحب " الكشاف " : البهمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر ، فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز .

أما قوله تعالى : ( فكلوا منها ) فمن الناس من قال : إنه أمر وجوب ؛ لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون منها ترفعا على الفقراء ، فأمر المسلمين بذلك لما فيه من مخالفة الكفار ومساواة الفقراء واستعمال التواضع ، وقال الأكثرون : إنه ليس على الوجوب . ثم قال العلماء : من أهدى أو ضحى فحسن أن يأكل النصف ويتصدق بالنصف ، لقوله تعالى : ( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) ومنهم من قال : يأكل الثلث ويدخر الثلث ويتصدق بالثلث ، ومذهب الشافعي - رحمه الله - أن الأكل مستحب والإطعام واجب فإن أطعم جميعها أجزأه وإن أكل جميعها لم يجزه ، هذا فيما كان تطوعا ، فأما الواجبات كالنذور والكفارات والجبرانات لنقصان مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة ودماء القلم والحلق فلا يؤكل منها .

أما قوله : ( وأطعموا البائس الفقير ) فلا شبهة في أنه أمر إيجاب ، والبائس الذي أصابه بؤس أي شدة ، والفقير الذي أضعفه الإعسار وهو مأخوذ من فقار الظهر . قال ابن عباس : البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه ، والفقير الذي لا يكون كذلك فتكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني .

أما قوله : ( ثم ليقضوا تفثهم ) قال الزجاج : إن أهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير ، وقال المبرد : أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها . والمراد هاهنا قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة ، والمراد من القضاء إزالة التفث ، وقال القفال : قال نفطويه : سألت أعرابيا فصيحا ما معنى قوله : ( ثم ليقضوا تفثهم ) ؟ فقال : ما أفسر القرآن ولكنا نقول للرجل : ما أتفثك وما أدرنك ؟ ثم قال القفال : وهذا أولى من قول الزجاج ؛ لأن القول قول المثبت لا قول النافي .

أما قوله : ( وليوفوا نذورهم ) فقرئ بتشديد الفاء ثم يحتمل ذلك ما أوجبه الدخول في الحج من أنواع المناسك ، ويحتمل أن يكون المراد ما أوجبوه بالنذر الذي هو القول ، وهذا القول الأقرب فإن الرجل إذا حج أو اعتمر فقد يوجب على نفسه من الهدي وغيره ما لولا إيجابه لم يكن الحج يقتضيه فأمر الله تعالى بالوفاء بذلك .

أما قوله : ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) فالمراد الطواف الواجب وهو طواف الإفاضة والزيارة ، أما كون هذا الطواف بعد الوقوف ورمي الجمار والحلق ، ثم هو في يوم النحر أو بعده ففيه تفصيل ، وسمي البيت العتيق لوجوه :

أحدها : العتيق : القديم لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن . وثانيها : لأنه أعتق من الجبابرة فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى ، وهو قول ابن عباس وقول ابن الزبير ، ورووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما قصده أبرهة فعل به ما فعل ، فإن قيل : فقد تسلط الحجاج عليه ، فالجواب : قلنا : ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصن به عبد الله بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه . وثالثها : لم يملك قط عن ابن عيينة . ورابعها : أعتق من الغرق عن مجاهد . وخامسها : بيت كريم من قولهم : عتاق الطير والخيل ، واعلم أن اللام في ليقضوا وليوفوا وليطوفوا لام الأمر ، وفي قراءة ابن كثير ونافع والأكثرين تخفيف هذه اللامات ، وفي قراءة أبي عمرو تحريكها بالكسر .

التالي السابق


الخدمات العلمية