صفحة جزء
( المسألة السابعة : في أقوال الناس في حد العلم ) قال أبو الحسن الأشعري : العلم ما يعلم به ، وربما قال : ما يصير الذات به عالما واعترضوا عليه بأن العالم والمعلوم لا يعرفان إلا بالعلم فتعريف العلم بهما دور وهو غير جائز ، أجاب عنه بأن علم الإنسان بكونه عالما بنفسه وبألمه ولذته علم ضروري والعلم بكونه عالما بهذه الأشياء علم بأصل العلم ؛ لأن الماهية داخلة في الماهية المقيدة فكان علمه بكون العلم علما ضروريا فكان الدور ساقطا ، وسيأتي مزيد تقريره إذا ذكرنا ما نختاره نحن في هذا الباب إن شاء الله تعالى ، وقال القاضي أبو بكر : العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه ، وربما قال : العلم هو المعرفة ، والاعتراض على الأول أن قوله : معرفة المعلوم تعريف العلم بالمعلوم فيعود الدور أيضا فالمعرفة لا تكون إلا وفق المعلوم فقوله على ما هو [ ص: 185 ] عليه بعد ذكر المعرفة يكون حشوا ، أما قوله العلم هو المعرفة ففيه وجوه من الخلل : أحدها : أن العلم هو نفس المعرفة فتعريفه بها تعريف للشيء بنفسه وهو محال .

وثانيها : أن المعرفة عبارة عن حصول العلم بعد الالتباس ، ولهذا يقال ما كنت أعرف فلانا والآن فقد عرفته .

وثالثها : أن الله تعالى يوصف بأنه عالم ولا يوصف بأنه عارف ؛ لأن المعرفة تستدعي سبق الجهل وهو على الله محال ، وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني : العلم تبيين المعلوم وربما قال : إنه استبانة الحقائق وربما اقتصر على التبيين فقال : العلم هو التبيين وهو أيضا ضعيف ، أما قول العلم هو التبيين فليس فيه إلا تبديل لفظ بلفظ أخفى منه ؛ ولأن التبيين والاستبانة يشعران بظهور الشيء بعد الخفاء ، وذلك لا يطرد في علم الله ، وأما قوله تبيين المعلوم على ما هو فيتوجه عليه الوجوه المذكورة على كلام القاضي ، قال الأستاذ أبو بكر بن فورك : العلم ما يصح من المتصف به إحكام الفعل وإتقانه وهو ضعيف ؛ لأن العلم بوجوب الواجبات وامتناع الممتنعات لا يفيد الإحكام .

وقال القفال : العلم إثبات المعلوم على ما هو به ، وربما قيل : العلم تصور المعلوم على ما هو به ، والوجوه السالفة متوجهة على هذه العبارة ، وقال إمام الحرمين : الطريق إلى تصور ماهية العلم وتميزها عن غيرها أن نقول : إنا نجد من أنفسنا بالضرورة كوننا معتقدين في بعض الأشياء ، فنقول : اعتقادنا في الشيء ، إما أن يكون جازما أو لا يكون ، فإن كان جازما فإما أن يكون مطابقا أو غير مطابق ، فإن كان مطابقا فإما أن يكون لموجب هو نفس طرفي الموضوع والمحمول وهو العلم البديهي ، أو لموجب حصل من تركيب تلك العلوم الضرورية وهو العلم النظري ، أو لا لموجب وهو اعتقاد المقلد ، وأما الجزم الذي لا يكون مطابقا فهو الجهل ، والذي لا يكون جازما ، فإما أن يكون الطرفان متساويين وهو الشك أو يكون أحدهما أرجح من الآخر فالراجح هو الظن ، والمرجوح هو الوهم ، واعلم أن هذا التعريف مختل من وجوه :

أحدها : أن هذا التعريف لا يتم إلا إذا ادعينا أن علمنا بماهية الاعتقاد علم بديهي ، وإذا جاز ذلك فلم لا ندعي أن العلم بماهية العلم بديهي .

ثانيها : أن هذا تعريف العلم بانتفاء أضداده وليست معرفة هذه الأضداد أقوى من معرفة العلم حتى يجعل عدم النقيض معرفا للنقيض فيرجع حاصل الأمر إلى تعريف الشيء بمثله أو بالأخفى .

وثالثها : أن العلم قد يكون تصورا وقد يكون تصديقا والتصور لا يتطرق إليه الجزم ولا التردد ولا القوة ولا الضعف فإذا كان كذلك كانت العلوم التصورية خارجة عن هذا التعريف ، قالت المعتزلة : العلم هو الاعتقاد المقتضي سكون النفس وربما قالوا : العلم ما يقتضي سكون النفس ، قالوا : ولفظ السكون وإن كان مجازا ههنا إلا أن المقصود منه لما كان ظاهرا لم يكن ذكره قادحا في المقصود ، واعلم أن الأصحاب قالوا : الاعتقاد جنس مخالف للعلم فلا يجوز جعل العلم منه ولهم أن يقولوا : لا شك أن بين العلم واعتقاد المقلد قدرا مشتركا فنحن نعني بالاعتقاد ذلك القدر ، قال الأصحاب : وهذا التعريف يخرج عنه أيضا علم الله تعالى فإنه لا يجوز أن يقال فيه : إنه يقتضي سكون النفس ، قالت الفلاسفة : العلم صورة حاصلة في النفس مطابقة للمعلوم ، وفي هذا التعريف عيوب :

أحدها : إطلاق لفظ الصورة على العلم لا شك أنه من المجازات فلا بد في ذلك من تلخيص الحقيقة والذي يقال إنه كما يحصل في المرآة صورة الوجه فكذلك تحصل صورة المعلوم في الذهن وهو ضعيف ؛ لأنا [ ص: 186 ] إذا عقلنا الجبل والبحر فإن حصلا في الذهن ففي الذهن جبل وبحر وهذا محال وإن لم يحصلا في الذهن ، ولكن الحاصل في الذهن صورتاهما فقط فحينئذ يكون المعلوم هو الصورة ، فالشيء الذي تلك الصورة صورته وجب أن لا يصير معلوما ، وإن قيل : حصلت الصورة ومحلها في الذهن فحينئذ يعود ما ذكرنا من أنه يحصل الجبل والبحر في الذهن .

وثانيها : أن قوله : مطابقة للمعلوم يقتضي الدور .

وثالثها : أن عندهم المعلومات قد تكون موجودة في الخارج وقد لا تكون وهي التي يسمونها بالأمور الاعتبارية والصور الذهنية ، والمعقولات الثانية والمطابقة في هذا القسم غير معقول .

ورابعها : أنا قد نعقل المعدوم ولا يمكن أن يقال : الصورة العقلية مطابقة للمعدوم ؛ لأن المطابقة تقتضي كون المتطابقين أمرا ثبوتيا ، والمعدوم نفي محض يستحيل تحقق المطابقة فيه ، ولقد حاول الغزالي إيضاح كلام الفلاسفة في تعريف العلم فقال : إدراك البصيرة الباطنة نفهمه بالمقايسة بالبصر الظاهر ، ولا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة كما نتوهم انطباع الصورة في المرآة مثلا فكما أن البصر يأخذ صورة المبصرات أي ينطبع فيه مثالها المطابق لها لا عينها ، فإن عين النار لا تنطبع في العين بل مثال مطابق صورتها ، فكذا العقل على مثال مرآة ينطبع فيها صور المعقولات ، وأعني بصورة المعقولات حقائقها وماهياتها ففي المرآة أمور ثلاثة : الحديد وصقالته والصورة المنطبعة فيه فكذا جوهر الآدمي كالحديد وعقله كالصقالة ، والمعلوم كالصورة واعلم أن هذا الكلام ساقط جدا ، أما قوله : لا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة فباطل لوجوه :

أحدها : أنه ذكر في تعريف الإبصار المبصر والباصر وهو دور .

وثانيها : أنه لو كان الإبصار عبارة عن نفس هذا الانطباع لما أبصرنا إلا بمقدار نقطة الناظر لاستحالة انطباع العظيم في الصغير فإن قيل : الصورة الصغيرة المنطبعة شرط لحصول إبصار الشيء العظيم في الخارج قلنا : الشرط مغاير للمشروط ، فالإبصار مغاير للصورة المنطبعة .

وثالثها : أنا نرى المرئي حيث هو ، ولو كان المرئي هو الصورة المنطبعة لما رأيته في حيزه ومكانه ، وأما قوله : فكذا العقل ينطبع فيه صور المعقولات فضعيف ؛ لأن الصورة المرتسمة من الحرارة في العقل ، إما أن تكون مساوية للحرارة في الماهية أو لا تكون ، فإن كان الأول لزم أن يصير العقل حارا عند تصور الحرارة ؛ لأن الحار لا معنى له إلا الموصوف بالحرارة ، وإن كان الثاني لم يكن تعقل الماهية إلا عبارة عن حصول شيء في الذهن مخالف للحرارة في الماهية وذلك يبطل قوله ، وأما الذي ذكر من انطباع الصور في المرآة فقد اتفق المحققون من الفلاسفة على أن صورة المرئي لا تنطبع في المرآة فثبت أن الذي ذكره في تقرير قولهم لا يوافق قولهم ولا يلائم أصولهم ، ولما ثبت أن التعريفات التي ذكرها الناس باطلة فاعلم أن العجز عن التعريف قد يكون لخفاء المطلوب جدا وقد يكون لبلوغه في الجلاء إلى حيث لا يوجد شيء أعرف منه ليجعل معرفا له ، والعجز عن تعريف العلم لهذا الباب ، والحق أن ماهية العلم متصورة تصورا بديهيا جليا ، فلا حاجة في معرفته إلى معرف ، والدليل عليه أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه يعلم وجود نفسه ، وأنه يعلم أنه ليس على السماء ولا في لجة البحر ، والعلم الضروري بكونه عالما بهذه الأشياء علم باتصاف ذاته بهذه العلوم ، والعالم [ ص: 187 ] بانتساب شيء إلى شيء عالم لا محالة بكلا الطرفين ، فلما كان العلم الضروري بهذه المنسوبية حاصلا كان العلم الضروري بماهية العلم حاصلا ، وإذا كان كذلك كان تعريفه ممتنعا فهذا القدر كاف ههنا وسائر التدقيقات مذكورة في الكتب العقلية ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية